تحاول الذاكرة أن تعيد ترتيب صورة (السنفاز) في شارع (ميزران) والذي اعتاد اجيال من طلبة الثانويات بطرابلس ارتياده في الصباحات الباردة، ما يزال رائحة زيته يصلني في صباحات لندنية مشابهة ليعيد بعضاً من الدفء. كنا في مطلع التسعينات نزوره قبل طابور التمام بثكنة (مدرسة) علي وريث الثانوية المتخصصة في سلاح (الجراد)، نذهب إليه قبل أن تلسعنا الرياح الصباحية الباردة ونحن نقف في الطابور في انتظار جلدة مسواق العسكري (عمار) الذي كان يعشق المؤخرات اليافعة، بينما يصدح في ارجاء الساحة “نداء الراية الخضراء”. كنت ومازلت أفضل السفنز بالدحي، ولا بأس من أن تكون رايبة.
تذكر المصادر أن (السفنز) أكلة منتشرة في في عدد من الدول العربية وخاصة مغاربيها، ففي تونس يسمي بنفس الاسم، ومازال السنفازة من اصل تونسي يعملون في اعداد الفطائر العجينية المقلية في ليبيا حتى اليوم، أما في المغرب فيسمى (سفنج) وهو اقرب للكعك المحلى الذي نسميه في ليبيا (بريوش). وجميع هذه التسميات أصله في الغالب واحد، وهو تعريب للكلمة العبرية (سوفج)، والتي تعني (اسفنج)، حيث تقلى فطائر العجين في الزيت الساخن وتمتصه مثل الاسفنج، وعادة يعد ويقدم في عيد (الحانوكا) اليهودي والذي يحتفل به لمدة ثمانية ايام ابتدأ من الخامس والعشرين من شهر (كيسليف) العبري والذي يقع بين شهري نوفمبر وديسمبر.
تقول الحكاية أن ثورة يهودية (الثورة المكابية) اندلعت في فلسطين العام 166 قبل الميلاد ضد الدولة السلوقية الاغريقية التي كانت تحكم المنطقة منذ عهد الاسكندر الاكبر. تعددت الأقوال في اسباب هذه الثورة فمن قائل أن اليهود ثاروا على انتهاكات دينية قام بها الحاكم (أنطيوخوس الرابع) ضد اليهود في فلسطين، من بينها انتهاك حرمة الهيكل المقدس بمنع العبادة فيه وتدنيسه بتقديم قرابين من الخنازير للإله الاغريقي (زيوس) والذي بني له مذبح في داخل الهيكل، إلى جانب تجريم تلاوة التوراة وتعليمها، إلى جانب منعه لعادة الختان، كل هذه الانتهاكات جعلت اليهود يثورون لإعادة حرمة المعبد وترسيخ المعتقدات والعبادات اليهودية في منطقتهم. وهناك قول آخر أن الحاكم انطيوخوس تدخل لمساندة أحد طرفي حرب اهلية اندلعت في القرن الثاني قبل الميلاد بين الأصوليين اليهود ومجموعة أخرى من اليهود الذين تبنوا الثقافة والعادات والتقاليد السلوقية الاغريقية ولم يلتزموا بشعائر وتعاليم اليهودية كما يجب.
في العام 164 قبل الميلاد انتصر اليهود الاصوليون بقيادة (يهوذا المكابي) على الدولة السلوقية في القدس واعاد (المكابي)، ويعني اسمه المطرقة، المعبد إلى سابق عهده بتطهيره من الدنس الذي لحق به، ويذكر التلمود أنه عند تدشين الهيكل من قبل (المكابيين) لم يبق في المعبد ما يكفي من الزيت الصالح لإيقاد الشمعدان المقدس (المينورا)، وبرغم ذلك فقد استطاعوا انارة الهيكل ثمانية أيام بالكمية القليلة من الزيت المتبقي حتى تم اعداد الزيت الجديد، لذا فقد اعلن (يهوذا المكابي) أنه سيتم الاحتفال بهذه المعجزة في نفس الوقت من كل عام بإنارة الشمعدانات في البيوت والاحتفال لمدة ثمانية أيام، وسمي حينها (بعيد الأنوار) والذي سمي لاحقاً بعيد الحانوكا (هانوكا) والتي تعني (عيد التدشين) أي اعادة تدشين هيكل سليمان في القدس من قبل المكابيين.
ومنذ ذلك التاريخ أو ربما في وقت لاحق اصبح اعداد وتقديم الاكل المقلي في الزيت أحد العادات التي تصاحب الاحتفال بعيد الحانوكا للتبرك بمعجزة الزيت في الهيكل، وتتعدد الوصفات التي يتم اعدادها في هذا اليوم بين يهود الغرب والشرق، فهناك من يعد فطائر مقلية تصنع من البطاطا تسمى (لاتكس)، وهناك فطائر اخرى اقرب للدونات (بريوش) تسمى (سوفجنية)، المشتق اسمها من كلمة اسفنج العبرية، لأنها تشبه الاسفنجة التي تمتص الزيت عند قليها.
كانت العائلات اليهودية تعد السفنز في شتاءات ليبيا وذلك احتفالاً بعيد الانوار، ومازال الكثير منهم يعده في منافيه الاختيارية والجبرية في شتى انحاء العالم، السفنز الليبي، الذي كثيراً ما أدفأنا من برد في صباحات عديدة، يحمل بين طياته الزيتية وتنوع اشكاله غير المتكررة تاريخاً طويلاً، لعل من بينها بعض الاساطير البشرية التي ما تزال تنسج في تلك المساحة من الارض، وربما علينا أن نعد سفنزاً وليكن بالبيض احتفالاً بمعجزة انتصارنا على عقود طويلة من الاستبداد والقمع.
المجد للسفنز مشبع الجيعانين ومدفي الصقعانين.
______
* مصدر الصورة مدونة الاكل الليبي.