الناظر إلى أعلى القلعة يمكنه أن يراه بوضوح. معتلياً صهوة جواد متمرد، مندفعاً بقوة، وهو يدوس على تنين شرس بينما يخترق رمحه فم الوحش. يقال أن القديس جورج (مار جرجس) المولود بحسب المراجع المسيحية في مدينة (اللد) الفلسطينية نهاية القرن الثالث الميلادي. ويقال أنه ولد لأسرة مسيحية عريقة، ولم يعرف غير المسيح مخلصاً، وبالرغم من كل ذلك فقد كان والده ضابطاً في جيش الامبراطور الروماني (دقلديانوس)، ثم اصبح هو الآخر جندياً لإمبراطور كان يفضل عبادة الآلهة الاغريقية/الرومانية على عبادة إله/إنسان من سوريا.
لكن الاساطير على ما يبدو كثيراً ما تتقاطع وتتمازج وتعود لتنمو في مكان آخر في زمن آخر. ففي فلسطين وبمدينة اللد، يمكنك زيارة ضريح القديس جورج في كنيسة بنيت لتخليده، والمفارقة أن هناك مسجداً يلاصق الكنيسة يسمى بمسجد (الخضر) نسبة للشخصية الدينية الغامضة التي ذكرت في القرآن بلا اسم محدد في قصة النبي موسى والرجل الصالح، لذا يقال بأن الخضر هو نفسه القديس جرجس.
ارتبط القديس جورج بعدة قصص أسطورية أخرى، حتى أن حقيقة جورج الانسان تكاد لا ترى في هذا الكم من الرموز والعبر. في كنيسة القديس جورج بفلسطين يأتي المرضى لطلب الشفاء من شفيع الكنيسة، حيث يلمسون قطع معدنية مطوقة يقال أنها كانت الاصفاد التي غل بها القديس، حين عذب حتى الموت من قبل الامبراطور دقلديانوس حين اكتشف أنه يدين بالمسيحية ورفض الاعتراف بإله الدولة الرسمي، جوبيتر.
حين ابحرت قوات ميليشيا (فرسان القديس يوحنا) من جزيرة مالطا إلى طرابلس، وبعد عقدين من حكم الاسبان هذه المدينة، ليستلموا المدينة ويحكموها لعشرين سنة، وجدوا امامهم فرصة لكي يبنوا موطأ قدم لطريقتهم العسكرية المسيحية، وربما بناؤهم لتحصينات قوية حول المدينة إلى جانب الكنائس ودور العبادة، جعلتهم يستعدون بشكل أو بأخر للمواجهة التاريخية التي ستلي ذلك ببضعة أعوام عندما حاصر الاسطول العثماني جزيرة مالطا، لعدة اشهر، فيما عرف بشكل مبسط في ادبيات الفرسان اليوحنيين، بحصار مالطا. يقال إنهم قبل أن يتقهقروا إلى الجزيرة بعد خسارتهم لطرابلس على يد العثمانيين بقيادة ادميرال البحر (الريس درغوت) والقائد(مراد آغا)، يقال أنهم تركوا ورائهم منحوته جدارية تخلد لمعركة اسطورية خاضها القديس جورج مع تنين. تركت المنحوتة عدة سنوات في داخل كنيسة القديس جورج الواقعة في مدينة طرابلس القديمة وغير بعيد عن كنيسة السيدة مريم، حتى قام الايطاليون بوضعها في اعلى قلعة السرايا الحمراء بركنها الجنوبي الشرقي.
لعل الايطاليين ظنوا أنهم يستطيعون بناء روما حديثة انطلاقاً من الشاطيء الرابع، كما كان يسمون ليبيا، أو ربما ظن موسوليني أو غراتسياني أو الطيار الحربي بالبو، الذي اشرف على بناء معظم ليبيا الايطالية، أن وجود القديس جورج في اعلى القلعة سيكون حامياً للمدينة، تعويذة تدفع الشر وترعب الشيطان/التنين من الاقتراب من اقليمها “المستعاد”، الفاشيون الأوائل يلهمون من يلحقهم من فاشيين جدد.
المفارقة الساخرة أن شعار القديس جورج (الفلسطيني)، الصليب الأحمر بخلفية بيضاء، اصبح شعاراً للكثير من الدول الأوروبية من بينها انكلترا، واصبح الفاشيون الجدد في انكلترا، المتمثلين في الاحزاب اليمينية المتطرفة، والتي تدعو إلى التخلص من غير البيض في بلادهم، يستخدمون شعار القديس جورج في حملاتهم العنصرية، القديس جورج الذي اصبح كالمسيح كذلك شعاراً للحروب والموت.
تقول الاسطورة أن القديس جورج زار ليبيا في زمن مجهول، ويذكر كتاب الاسطورة الذهبية أن حادثة قتل التنين الشهيرة جرت في مدينة سيلين. كان الفارس جورج في ظهيرة ذات يوم يمر بالقرب من بحيرة حين استرعى انتباهه تنين عملاق يهم بالتهام فتاة مقيدة بالاصفاد، فاندفع بحصانه فوق التنين ودفع برمحه في فمه حتى استكان، وخلص الفتاة البريئة والتي اتضح أنها ابنة ملك المدينة التي كانت تجري قرعة كل عام لمنح الشيطان المتلبس في صورة تنين احدى فتيات المدينة لكي لا ينزل الاذى بالمواطنين. وكما كل الاساطير القديمة، والتي تقدم نهاية ساخرة، انتصر القديس جورج على الشيطان وقدم التنين الذي اصبح أليفاً كقط منزلي إلى الاميرة التي اعتنقت المسيحية مع ابيها الملك وكافة سكان المدينة.
القديس جورج ما يزال معلقاً اعلى قلعة طرابلس، لا يكاد يثير انتباه احد من المارة بالاسفل، حتى أن الكثيرين قضوا حياتهم في هذه المدينة دون أن يعرفوا أن القديس جورج ما يزال في الأعلى يقتل التنين كل يوم. التنين الذي يبدو أنه ما يزال ينتظر لحظة ماكرة لكي يسقط القديس من فوق صهوة جواده. لكن حتى ذلك الحين سيحمي القديس جورج المدينة من هجوم فاشيين جدد مدججين بالقنابل والجرافات معتصمين بإله غاضب كغلام نزق.