يولد الجهل عادة الثقة، أكثر مما تولده المعرفة : انهم أولئك الذين يعرفون القليل لا الذين يعرفون الكثير، الذين يؤكدون بشكل ايجابي أن هذه المشكلة او تلك لن تحل ابداً بالعلم.
(تشارلز داروين)
يحتفل المجتمع العلمي اليوم بمرور مائتي عام على ولادة عالم الاحياء الطبيعية ومؤسس نظرية (التطور) او النشؤ والارتقاء (تشارلز داروين) (1809-1882). وكانت العديد من المؤسسات العلمية في بريطانيا وفي الغرب عموماً قد وضعت في اجندتها عدد من المناسبات الاحتفائية وخاصة وانها تتزامن مع مرور 150 عاماً على صدور كتاب (اصل الانواع) الحجر الاساسي لنظرية التطور وذلك في العام 1859.
متحف التاريخ الطبيعي في العاصمة البريطانية لندن يقيم معرضاً بهذه المناسبة يستمر حتى ابريل من هذا العام وضم العديد من المقتنيات الخاصة بداروين إلى جانب اقامة امسيات علمية ستناقش اهم المحطات التي مرت بها نظرية التطور (Evolution)من مجرد افكار عامة إلى نظرية تبحث عن المزيد من الادلة العلمية لتعزيزها وحتى العصر الحديث حيث اصبحت النظرية جزءً من الحقائق والمسلمات التي تحاول أن تجد تفسيراً علمياً لأصل الحياة على كوكب الارض.
وإن كان الجدل احتدم في منتصف القرن التاسع عشر في بريطانيا عندما نشر داروين نظريته، فإن نتائج الفكرة “الخطيرة” التي توصل إليها ما تزال تثير نفس الجدل في الكثير من الدول والثقافات ولعل اهم هذه التجاذبات هو ما يحدث في الولايات المتحدة الامريكية، من خلال الصراع بين عدد من المحافظين المسيحيين وعلماء الاحياء والطبيعة على خلفية محاولة منع تدريس نظرية التطور في بعض المدارس الامريكية أو محاولة البعض لتدريس نظرية “الخلق” او “التصميم الذكي” جنباً إلى جنب مع نظرية داروين وذلك ضمن منهج الاحياء العلمي.
بل ان الجدل وصل إلى دهاليز السياسة الامريكية فاصبح من الصعب على أي سياسي امريكي يسعى إلى انتخابه في اي منصب حكومي المجاهرة بمساندته لنظرية النشوء والتطور دون المراهنة على سمعته السياسية وربما حتى منصبه الحكومي.
وعلى الرغم من مرور اكثر من قرن ونصف على نشر نتائج نظرية داروين وقبولها بين الاوساط العلمية كأحد المسلمات والحقائق العلمية التي تزداد تعزيزاً كل عام بالاكتشافات والبحوث المتواصلة، إلى جانب تدريسها في معظم دول العالم كجزء من مناهج العلوم والاحياء، إلا أنها ما تزال تعاني الكثير من سوء الفهم والتبسيط والاستغلال السياسي والديني في اكثر الاحيان، لا في الغرب فقط ولكن المسألة تزداد تعقيداً في ثقافتنا العربية المتأثرة بشكل مباشر بالتفسيرات الدينية الاسلامية للظواهر العلمية والطبيعية.
وإن كان علماء الاحياء الطبيعية يختلفون في تفاصيل حقائق نظرية التطور إلا أنهم يجمعون على صحة الشكل العام لظواهرها في كونها تقدم التفسير الامثل لتطور الحياة على الارض وتنوع الكائنات والبيئة المحيطة بنا. إلا أن الفهم الخاطئ والذي تم تكريسه من خلال العديد من الاعتقادات والاحكام المسبقة ادى إلى ظهور انفصام في التعامل مع الحقائق العلمية والنصوص الدينية القائمة على الايمان المطلق والتسليم اللامحدود.
كما ان الترجمات غير المتوافقة لكلمات مثل (نظرية) (Theory) ومسلمة او حقيقة (Fact) بين اللغتين العربية والانجليزية و التبسيط المتجني من خلال اختزال النظرية في كونها تركز على ان اصل الانسان – قرد – منح فرصة لمنتقدي النظرية على اساس ديني لتفنيدها من خلال محاولة اثبات أن (التطور والنشوء) لا تعدو كونها “نظرية” اي بمعنى وجهة نظر عالم من علماء الاحياء نشرت قبل مائة وخمسين عاماً، وان الانسان كائن متفرد في تكوينه يتميز به عن باقي الكائنات، مغفلين الادلة العملية المتكاثرة والتي اثبتت صحة (التطور) ليس فقط على المستوى الاحيائي فحسب ولكن حتى على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كذلك.
فالتطور يقوم على اربعة علوم – ادلة علمية – اساسية، علم الإحاثة او الاحافير، التشريح ، علم الوراثة ، والجغرافيا ، بالاضافة لعلوم الفيزياء والكيمياء حول تاريخ الأرض، كل هذه العلوم وادلتها تم ربطها ضمن إطار يثبت صحة نظرية التطور وتجعلها نظرية متماسكة تفترض المزيد من الاثباتات.
كما ان العملية التي يحدث من خلالها التطور تتكون من خمس عوامل هي: التكيف (Adaptation)،الانسياق الجيني (Genetic Drift)، الانسياب الجيني (Gene Flow)، الطفرات الجينية (Genetic Mutation)، الانتقاء الطبيعي (Natural Selection)، والتنوع (Speciation)، كما أن التراكم المتواصل لكافة هذه العوامل ببطء وبشكل ضئيل وعلى مدى ملايين السنين سيؤدي إلى التنوع الاحيائي الذي نراه في الطبيعة، والذي ما يزال يحدث كل يوم، فالتطور عملية متواصلة لم تنتهي بوصول نوع من الكائنات التي الشكل الحالي وستستمر بحسب التغيرات البيئية والجينية.
مازال امام نظرية التطور الكثير لاثباته، لعل اهمها هو اكتشاف المزيد من الحفريات التي تملأ الفراغات والحلقات المتواصلة بشكل غير مباشر بين الكائنات، إلى جانب الحصول على مزيد من الادلة بخصوص اشكال الحياة السابقة واسباب تطورها والعوامل البيئية التي ادت إلى تكون انواع جديدة من خلال اهم عاملين في عملية التطور وهما: الانتقاء الطبيعي (natural selection) والطفرات الجينية (genetic mutations)، ولكن بعد مرور مائتي عام على ولادة داروين يبدو ان اكبر تحد يواجه النظرية وحقائقها هو تقريبها إلى اذهان الاجيال القادمة واثبات صحتها خارج الاوساط العلمية والمتخصصة، ولعل نظرة بسيطة على المناهج العلمية التي تدرس في بلداننا تكفي لاثبات اننا في حالتنا العربية مازلنا لم نشعل الشمعة الاولى في لعنة الظلام الذي يغشانا.