يتحدد مفهوم الهوية الشخصية من وجهة نظري غير الموضوعية، بالثقافة الاجتماعية التي تنشأ في السنوات الاولى من حياة الفرد. ولعل أهم هذه المحددات التي تشكل الهوية هو الوعي بالمكان والانتماء للمجموعة البشرية التي تجتمع في مظاهر اللغة والاعراف والتقاليد. ولعل أحد الاشكاليات التي تنشأ في مطلع الحياة هو تكوين الوعي البشري ومدى تداخله مع التوجهات الفكرية في المحيط الذي يؤثر في التركيبة العقلية والنفسية للفرد. ويبدأ هذا الاشكال من السؤال الاول الذي يطرحه المرء عند أول الوعي بالكينونة والتفرد وهو (من أنا؟ ومن أكون؟) في مقابل السؤال الاختزالي للفرد في المجموع (من نحن؟ ومن نكون؟).
وبعيداً عن المقدمات الفلسفية الجدلية وقطعاً للهواجس والاتهامات الجاهزة بالاستلاب والانسلاخ وربما حتى الخيانة، التي قد يثيرها العنوان، فإنني اجد نفسي في وضع متزن للاجابة عن هذا السؤال الجدلي بتعريف لهويتي كوني (ليبي) وحسب، وذلك بعد عدة سنوات من اختزالي كفرد في مجموعات بشرية تحاول الاشتراك معاً في مفهوم هوية مبنية على الابعاد الفكرية، ابتدأً بالقومية العربية، مروراً بالدين، وانتهاءً بالعرق.
وهنا يجب علي أن اعترف بأن هويتي الليبية هي محاولة لأختزال كينونتي في محدد ثقافي يشمل في بنائه على حقائق وابعاد هذه الهوية والتي من بينها اللغة (عربية، امازيغية، ليبية)، والدين (الاسلام بطبعاته المتنوعة)، التوجه الفكري (اسلامي، ليبرالي، علماني، اشتراكي، رأسمالي)، الموقع المكاني (شمال افريقيا، البحر المتوسط) والمشترك التاريخي الذي يمنح لهذه الهوية الليبية تميزاً وتفرداً عن باقي الهويات المجاورة والمتصارعة على هذه الرقعة الجغرافية من العالم.
ولا يؤدي هذا اليقين بالهوية التي انتمي لها إلى أي نوع من التعالي أو التفاخر أو العنصرية العرقية أو “الوطنية” العمياء والتي لا ترى أي خلل في تكوينها وتمارس الاستعلاء على ما يجاورها من هويات أخرى تختلف عنها في احد التفاصيل الصغيرة المكونة لها، بل إنني في يقيني المنتمي هذا أشعر بالتواضع، ولربما الازدراء والخزي لاكتشافي بحقيقة كوني “ليبي” وحسب.
وهنا يجب علي بيان أن هذا الشعور بعدم الفخر بهويتي لا يعني بطبيعة الحال محاولة الانسلاخ منها أو البحث عن وسيلة لتغيير من أنا ومن اكون، أو التقليل من شأن هذه الهوية الجمعية أو احتقارها، فإن كينونتي الليبية تبقى احد أهم الحقائق والمسلمات المطلقة التي لا يمكن تغييرها أو الانسلاخ منها دون حصول شرخ حاد في تكويني الشخصي والنفسي، بل اكاد اقول أن ليبيتي مسألة قدرية وحتمية، وهي الارضية التي اقف عليها لتكوين باقي محددات هويتي الفردية المستقلة عن باقي المجموع الذي قد يشترك معي في هذه الهويه الليبية.
وقد اعيد “رجعيتي” و”اقليميتي” و”قطريتي” و”شعوبيتي” الليبية هذه، إلى رد فعل عكسي على تكويني الفكري والذي قد يعكس حالة جيل بأكمله في ليبيا، من خلال الاساطير والخرافات الفكرية التي تم حقنها في عقولنا عبر وسائل التوجيه على جميع المستويات، ابتدأً “بالثورية والوحدة والقومية العربية والمصير العربي المشترك أمام الهجمات والمؤمرات الصهيونية والامبريالية والتصدي لمحاولات الغزو الاستعماري الثقافي لمحو هويتنا الاسلامية النابعة من ايمان مطلق بإله سينصرنا عاجلاً أو آجلاً”. جميع هذه الشعارات وغيرها مما لا يعد من مظاهر الهويات المتصارعة في داخل هذا الفرد خلقت منا مسوخ بشرية غير قادرة على التفاعل الواعي بالقضايا الحقيقية التي تواجه مصيرنا كونها لم تحدد بعد هويتها الاساسية الاولى التي تقف عليها.
إن هويتي الليبية تختزل في داخلها أبعاد تكويني الثقافي التي تتمدد وتنمو وتتصارع في داخلي من خلال الانفتاح على الأخر المختلف حتى في داخل الهوية الواحدة. هويتي الليبية لا تملك حدوداً “مصطنعة” ولا تعترف بالنقاء العرقي أو الوطني. هويتي الليبية لا تحددها أوراق الجنسية الحكومية التي تمنح لي. ليبيتي هي القدر الوحيد الذي لا يمكنني الخلاص منه. لذا فإنني اعيش هذا اليقين الليبي بكل قبول واستسلام، وبذلك فإنه بكل فخر، يكفيني مذمة أنني ليبي!!.