يتميز السرد النثري باشكاله المتعددة بقدرته على التطور بحسب التغيرات المستحدثة على حياتنا اليومية، فالسرد بشكل عام يمنح الكاتب الفرصة للتعبير عن الحالة المعاشة بطريقة تبتعد عن التقريرية والمباشرة الصحفية أو الغنائية الشعرية وخاصة في الثقافة العربية التي ما تزال اسيرة للقوالب الادبية التقليدية في التعبير واختزال الواقع إلى كلمات والمعاني التي تختبئ وراءها.
وإن كان السرد النثري قد اقتصر على شكل القصة القصيرة والرواية بنوعيها الطويل والقصير وتفرعاتها من رواية ادبية إلى رواية الاثارة، والجريمة، والفانتازيا، وقصص وروايات الاطفال والمراهقين، فإن الكتابة التي تجمع ما بين المقالة الصحفية بتقريريتها واعتمادها على اللغة المباشرة والقصة التي تتميز بالجمل القصيرة والتكثيف وفي بعض الاحيان اللغة النثرية الغامضة بما في ذلك من محدودية المكان والزمن الواقع فيهما السرد، فإن ما اصطلح على تسميته بالمقالة السردية أو ربما المقالة الحكائية، تظل من الاجناس السردية التي لم تتعرض للتجريب بشكل واسع في الادب العربي المعاصر.
في كتابه الصادر العام 2008 عن دار ليبيا للنشر بالقاهرة (حكايات من البر الانكليزي) يجمع الكاتب (جمعة بوكليب) بين عدة اشكال سردية مختلفة، ولكن الشكل العام الذي يحتويها هو المقالة السردية القصصية، فالكاتب هنا لا يفصل بين الراوي ونفسه أو بين الشخوص التي يحتويها النص، فهو يجعل القارئ يتماهى مع شخصية السارد والكاتب مما يمنح النص خصوصية وحميمية تتميز بطابع السيرة الذاتية وهو ما يجعلها أقرب للتصديق لواقعيتها وفعلها المباشر من التركيب السردي المتخيل الذي تعتمد عليه القصة القصيرة أو الحكاية. كما أن لجوء الكاتب إلى المكاشفة والمجاهرة بوجهة نظره في ما يرى ويسمع وما يتابعه من خلال سرده لاحداث من سيرته الذاتية أو حياته تمنح الكاتب وسيلة للتعبير من خلال شكل المقالة الصحفية، فاللغة المستخدمة وإن انتحت جانب الاختزال والتكثيف الذي تتميز به القصة أو الحكاية فإنها في كثير من الاحيان تتميز بالمباشرة وسلاسة الوصف وسهولة البناء.
جمع الكتاب خمساً واربعين حكاية أو مقالة سردية. وباستثناء الحكايتين الاوليين في المجموعة (العد من الواحد إلى العشرة) و(حصار) اللتين كتبتا في اوقات سابقة وبطريقة اقرب إلى المقالة في الاولى والقصة القصيرة في الثانية فإن باقي الحكايات اتخذت من اسلوب المقالة السردية وسيلة للتعبير عن الحالة المعاشة. وبشكل عام يمكن للقارئ ان يتبين عدداً من المستويات للسرد تشترك فيها هذه الحكايات
.
فالراوي/الكاتب لا يختفي وراء شخصية مركزية متخيلة وإنما لا يدع مجالاً للشك بأن من يروي الحكاية هو الكاتب ذاته، لذا يجد القارئ نفسه يتفاعل مع هذه الشخصية بشكل مباشر ويتعايش مع الكاتب/الراوي في جميع مراحل حياته التي يسردها وهذا المستوى الاول من السرد هو المفصل الاساسي لقدرة الكاتب على كسر الحواجز بينه وبين القارئ بل إنه يكاد ينجح في اخفاء المتخيل لحساب الواقعي والحقيقي. المستوى الثاني، هو المكان الذي يقع فيه السرد والذي يدور معظمه في (البر الانكليزي) بحسب تعبير الكاتب أو انكلترا بمعناها السياسي العام الشامل للجزر البريطانية وبعاصمتها (لندن) المدينة التي اختزلت في زمن ما امبراطورية امتدت لتشمل العالم بأسره.
فمعظم الاحداث تدور في مدينة لندن ليس باسماء شوارعها أو ميادينها أو مبانيها القديمة والحديثة ولكن بحمولة هذا المكان التاريخية والحضارية، وفي حالة السارد بشخوصها والتي تمثل الوقود الذي يحرك تروس هذا الوحش العملاق المسمى (لندن) لكي تستمر في الحياة والازدهار تاركة وراءها اكواماً من الجثث البشرية التي طحنتها عجلة الحياة في هذه المدينة التي لا يعرف قلبها الرحمة، بينما في البعد تلوح مدينة اخرى يحاول السارد تبيانها أو ربما الوصول إليها، مدينة تظهر باستحياء في النص، في بعض الاحيان، أو ربما تظهر بقوة وبلا مواربة في اماكن اخرى من الحكايات، وهي مدينة (طرابلس) الليبية مسقط رأس الكاتب، لكن (الفرق بين لندن وطرابلس كالفرق بين مدينة لا تراك وأخرى تنكرك) فلندن مدينة (لا تحب إلى نفسها) وطرابلس (كالقطة تأكل بعض ابنائها ومن نجا منهم… عليه مواجهة مصير العيش مكابداً ألم نكران أمه له!!)
أما المستوى الثالث فهو الشخوص التي اختارها الكاتب لتشترك معه في أداء هذه الحكايات وهي في مجملها شخصيات تبدو وكأن السارد قد تعثر بها نتيجة عيشه في البر الانكليزي، وفي اغلبها تجدها تدخل النص بشكل مفاجئ وتخرج منه بشكل سريع مما يوحي بغربة هذه الشخصيات عن المكان وعن بعضها البعض فالجميع يحمي نفسه بجدار من الحزن واللاجدوى، بعضهم عابر سبيل، ومنهم من يقيم في انكلترا لسنوات طويلة ولكنه ما يزال يعتبر نفسه عابر سبيل، بعضهم شارك الكاتب فنجان قهوة أو سيجارة على باب مقهى أو مطعم وآخرون ساقتهم الاقدار أو العبث امام الكاتب فلم يجد مفراً من التعامل معهم ولكنهم في آخر المطاف يرحلون ليبقى النص مفتوحاً أمام فراغ مكان لا يحوي سوى شخصية (الرواي/الكاتب) وهو ما يعمق احساس الغربة، المحور الرئيسي لهذه الحكايات.
أما على مستوى اللغة الموظفة في النص والتي تتكئ على اسلوب السخرية التي تتلون باللون الاسود في بعض الاحيان فقد منحت هذا اللغة، وخاصة من خلال استخدام تعابير محلية وامثال شعبية ليبية وعامية، بعداً حميمياً يجعل النص اكثر التصاقاً بالواقع المحكي وهو ربما ما جعل الكاتب يصنف نصوصه السردية في فئة الحكايات أو (الخرافات) الشعبية التي كانت الجدات تحكيها للأطفال قبل النوم وتنحو إلى استخدام الامثال والحكم الشعبية المستوحاة من حكايات بها الكثير من المفارقات الساخرة والمضحكة في بعض الاحيان. إلا أن الكاتب لا يخفي شغفه باللغة الشعرية المتأنقة والتي استعملها في اكثر من حكاية أو في جمل قصيرة ضمن حكايات أخرى أكثر واقعية ومباشرة.
وتبقى (حكايات من البر الانكليزي) للكاتب (جمعة بوكليب) نصوصاً سردية تمتاز بالعفوية والتلقائية والالتصاق بالواقع بعبثه ولا معقوليته ولكنها في نفس الوقت ترسم على شفاهنا ابتسامة متمردة تقفز بين فكي الالم والغربة المرة في هذا البر البعيد عن الشمس والألق، وبذا ينجح جمعة بوكليب في تقديم حكاياته/حكاياتنا بتواضع يقل نظيره في مثل هذا اللون الادبي وبسرد لا يتعالى على القارئ ولا يمارس تسلطاً على عقولنا مما يمنح مساحة رحبة للخيال بالتحليق دون حدود، دون قيود.. هذه حكايات أولى وفي انتظار المزيد.
____
* يمكن الاطلاع على بعض من حكايات جمعة بوكليب عبر الرابط التالي هنــــــــــــــا.