” اللي في البيضه أوعر من اللي فقس “، مثل شعبي مغربي قرأته في صفحة الأستاذ الهادي حقيق، على الفيسبوك، في المدة الماضية، وألتصق بذاكرتي كانجذاب برادة حديد لقوة مغناطيس، لشدة دلالاته، التي يسلطها على ما يحدث في واقعنا، على المستويين القطري الليبي، والقومي العربي.
الحقيقة، أن علاقتي بالفيسبوك تتسم بكثير من التذبذب، بمعنى أنني لا أحرص كثيراً على ما متابعة ما يجري فيها، أولاً: لانشغالاتي اليومية الكثيرة التي لا تترك لي إلا هامشاً صغيراً من الوقت، أفضل قضائه فيما أحب. وثانياً: أن الكثير مما ينشر على صفحات الفيسبوك ليس مثيراً كثيراً لاهتمامي.
وبالطبع، كما في كل شيء، هناك استثناءات منها صفحة الأستاذ الهادي حقيق، والتي صرتُ متعلقاً بها، ومنجذباً نحوها لما تحتويه من أمثال، وأغان شعبية، وصور، وما يكتبُ من قراءات نقدية فنية، لبعض مما ينشر على صفحات الفيسبوك من رسومات لفنانين تشكيليين ليبيين، حيث فاجأني بمتابعته اللصيقة لما يقدمه الفنانون التشكيليون الليبيون من إبداعات، وأيضاً لما احتوته تلك القراءات، القصيرة والسريعة، من فهم عميق لحوار ودلالات الألوان والخطوط.
وأعترف أن متابعتي لصفحة الأستاذ الهادي حقيق جعلتني أشعر بأنني كمن عثر، صدفةً، وبعد عطش سنين، على نبع ماء بارد، في صحراء، شاسعة ومجدبة، تجلدها أسواط نار مجبولة من حرارة شمس بلا قلب. وتبين لي أن ولعي وشغفي بالثقافة الشعبية الليبية، ممثلة في أمثالها الشعبية وغناويها، وأقوالها المأثورة، الذي التقفته صغيراً من كلام وأحاديث أمي، وحكايات جدتي، وكبر معي، ممتداً طولاً وعرضاً، في وجداني قد عثر، أخيراً، على ضالته المنشودة، وبدأ يشبع نهمه إلى ما أحبَ وأشتهىَ، من خلال ما صار يقدمه له الأستاذ الهادي حقيق، على شكل جرعات مشبعة من أمثال شعبية ليبية قديمة، وأغان، تسربت في خلايا الروح مع عشب الطفولة وتفتق أزاهير الشباب، وزادت دهشتي أكثر حين تبين لي أن ذاكرة ووجدان الهادي حقيق، شعبياً، كبيران إلى درجة امتدادهما إلى خارج الأفق الشعبي الليبي ليطالا كنوز الثقافة الشعبية في تونس والجزائر والمغرب ومصر واليمن.
سعة اطلاع الأستاذ حقيق في الثقافة الشعبية ليس غريباً لكل من يعرف من هو الهادي حقيق، ومن أي نبع أرتوت جذور ثقافته، وكيف تهيأ لهذه الجذور المناخ المناسب، الذي جعلها تمتد على مر السنين في عمق ثقافتنا الشعبية الأصيلة.
الهادي حقيق هو نجل الفنان المرحوم الحاج محمد حقيق، الذي كان يعد موسوعة متنقلة في الثقافة الشعبية، ومؤلف أغان من الطراز الأول، ورجل إعلامي بقامة عالية، وشخصية شعبية محبوبة تحظى بالاحترام العميق. واذكر أنني حينما كنتُ صبياً نحيلاً، بذاكرة طرية، كنتُ أتابع عبر الإذاعة الليبية المسموعة برنامجاً يومياً كان يذاع، على ما أذكر، قبل الساعة الرابعة مساء بعنوان “حديث اليوم ” كان يقدمه المرحوم الحاج محمد حقيق متحدثاً بلهجته الشعبية .
وفي النصف الأول من السبعينيات في القرن الماضي، بدأت وزارة الثقافة والأعلام الليبية في إصدار سلسلة شهرية عـــــــرفت باسم ” كتاب الشهر “، وكان من ضمن ما قدمته تلك السلسلة من كتب كتاب ” الأمثال الشعبية الليبية ” لمؤلفه المرحوم محمد حقيق. وأذكر أنني عشقتُ، حد الوله، ذلك الكتاب، وما زلت أحتفظ به في مكتبتي الخاصة، ببيتنا بطرابلس، وأعترف أن جزءاً لا بأس به مما تختزنه ذاكرتي من أمثال شعبية ليبية مصدره ذلك الكتاب / النبع.
الهادي حقيق هو أيضاً شقيق الملحن المبدع عبد المجيد حقيق، أمد الله في عمره، وهو صديق شخصي تمتد أواصر علاقتنا إلى أيام المرحلة الإعدادية بمدرسة الحرية بطرابلس وازدادت رسوخا مع مرور الزمن.
الهادي حقيق، إذن، هو ابن وتلميذ أصيل لبيئة، ومدرسة ثقافية وفنية، ولدَ بها، وكبرَ في أرجائها، متأصلاً في تربتها، ومتنفساً لهوائها، وعاشقاً وفيّا لها.
المثلُ المغربي ” اللي في البيضه أوعر من اللي فقس ” المنشور في صفحة الأستاذ الهادي حقيق، قد يذكر بشكل ما بواقعنا الدموي المرير الذي نعيشه منذ انبثاق ثورة فبراير عام 2011 م.
ما أود قوله – حسب قراءتي الشخصية لما يجري – أن واقع الحرب اليومية، الذي تشهده مدننا، وقرانا، في أرجاء بلادنا، ليبيا، قد لا تبدو له نهاية قريبة، بسبب شدة تعقيداته، وتشعباته المناطقية، والجهوية، والعقائدية، وتغوّل أطرافه. أضف إلى ذلك، تعدد أجندات هذه الأطراف، وما يحدث عليها من تغيرات. إلى جانب ما في جعبة الأطراف الإقليمية والدولية من أجندات، ما ظهر منها وما بطن. عليه، فإن ما عشناه، حتى الآن، من عنف ودم وتدمير ورعب، قد يكون هينّا، مقارنة بالذي مازال كامناً في البيضة ولم يفقس بعد.
ربما يرى البعض – وقد يكونوا محقّين في ذلك – أن قراءتي هذه، إلى حد ما، متشائمة. بمعنى أنها لا ترى في الكأس إلا نصفها الفارغ! ورداً على ذلك أقول: إنني رجل محكوم عليه بالأمل. وعلمتني الحياة، خلال العمر الذي عشته، أن من يفقد الأمل في حياة أرقى وأفضل، وفي وطن يتسع لنا جميعا باختلافاتنا، لا مكان له في عالم الأحياء. لكن ذلك – في نفس الوقت – لا يمنعني من تذكيرهم بأنه من المهم للمرء أن يشير إلى النصف الفارغ من الكأس، إذا أدرك، بعلمه وبخبرته، أن محتوى النصف الآخر منه، غير الفارغ ، متكون من سمّ زعاف، سبق لنا وان تجرعناه طيلة أربعة عقود من الزمن.
وما أدركه هو أن السياسة والمصالح يسيران يداً بيد، وبالتالي، فإن الأطراف المستفيدة، من الوضع الليبي الراهن، يهمها جداً استمرار هذا الوضع على ما هو عليه من سوء على كافة المستويات. ولذات السبب، فإن محاولات المجتمع الدولي ممثلاً في المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لإيجاد حل للصراع السياسي، بالدعوة لجلوس جميع الأطراف، ذات الشأن، على مائدة الحوار بغرض وضع الحصان أمام العربة تواجه بوضع العراقيل من هذا الطرف أو ذاك.
تأزم الموقف في ليبيا ليس ناجماً، فقط، عن أنتشار السلاح بشكل هائل، ووجود ميليشيات مسلحة، بأجندات متطرفة ومتشددة ، بل وأيضاً، لغياب وجود قيادات سياسية، قادرة على التعامل مع مختلف أبعاد الأزمة الليبية المختلفة، بوعي سياسي مرن، وبرؤية وطنية تتفهم ظروف واقعنا الليبي الهش تاريخياً وسياسياً، وتأخذ في اعتبارها ما يطرحه من إشكالات ذات جذور عميقة في التربة الليبية، كما أن الساسة الذين قذفت بهم الأحداث إلى الساحة منذ فبراير 2011م ، لا تنقصهم التجربة والحنكة والحكمة والوطنية فقط، بل ويستبد بهم الجشع والطمع (إلا من رحم ربي)، لتحقيق مكاسب آنية سريعة، ويهمهم استمرار الوضع الحالي بكل انتكاساته، حتى وان أدى بنا جميعاً، كشعب، وبليبيا كوطن، إلى هاوية سحيقة!
وقانا الله برحمته شرّ ذلك المصير.
قولوا آمين.
لندن – 18/3/2015