إذن فقد تحققت الثورة ضد المستبد، واسقطت رموز النظام القديم وشرب الجميع نخب انتصارهم على الاصنام التي كان الكثير منهم اما يعبدها أو يخاف من غضبها، سقط رب البعض وربما الاغلبية التي صمتت لعقود وهي تتجرع ذلا ومهانة استمرأت تجرعها وأورثتها الاجيال التي جاءت بعدها، لكن البعض تناسى في ذروة نشوة الانتصار أن الاستبداد تصنعه الجموع قبل أن يولد من يجسده في شخصه.
إذن بدأنا نسمع ايقاعات رومانسية تعدنا بدولة القانون والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وقبل كل ذلك الحرية. الحرية التي انتهك عرضها من قبل المستبد السابق والمتطلع للسلطة الحالي. كان علينا انتظار عدة سنوات حتى تحققت الثورة ولكن لكي تتحقق الحرية علينا ان ننتظر عدة سنوات أخرى، فهي لم تتحقق بعد ما دمنا نكبل انفسنا بأغلال الرضى الاجتماعي التي تفرضها عادات وتقاليد متحالفة، اساسها العرف الاجتماعي واداتها العصا الدينية القامعة.
إنهم اولئك المنحرفون نفسياً الذين يمارسون بلطجتهم الصبيانية على انسايتنا من خلال نظراتهم المرتابة وآذانهم المتلصصة، والتي تقف عند كل ركن في انتظار الانقضاض علينا لسلبنا حريتنا من خلال شرعية غيبية اجتماعية تدعي العرفان المطلق، وقدرتها على فرض ما هو لازم لنا لكي ننال معهم أو ربما بدونهم حياة آخرة قد تكون اكثر عدلاً من حياة دنيا لا نملك سواها بين ايدينا، حياة فقدها الآلاف من أجل ان نتحصل على النعيم الآن وهنا.
أولئك الذين لا يختلفون في نزقهم عن المراهقين الذين ما أن اشتموا رائحة هرمونات الذكورة في اباطهم حتى وقفوا للطلبة الاضعف والاقل ذكورة في نظرهم في الشوارع أو خارج اسوار المدارس عند انتهاء الدوام الدراسي، والذين في زمن الاستبداد استعملوا الاحزمة العسكرية الغليظة بنهايتها الحديدية لضرب منافسيهم على الرأس، في مشهد بدائي مازال يتكرر منذ عصر النيانديرتال.
كنتَ قبل الثورة تعتقد أنك تنتمي لأقلية في هذا الوطن، أقلية رومانسية حالمة، لم تتخل عن تفاؤلها بأن المستبد سيسقط وأن المسألة لا تتعدى حدود البيولوجيا وتداول الاجيال كما هي دورة الحياة، وبعد الثورة والتي اعادت فتح افق الممكن أصبحت تعتقد أنك تنتمي لأقلية الأقلية، أقلية مازلت تحلم بتفاؤل أقرب للسذاجة والسخافة بأن هناك إمكانية لتحقيق الحرية من خلال ثورة اجتماعية على قيم وعادات وأعراف بائسة تحالفت مع الديني القمعي وظهرت بشكلها التهريجي بعد سقوط المستبد.
وبالرغم من كل العذابات والتضحيات والاغاني والاناشيد والاعلام الوطنية المملة، يظل ذلك السؤال الوجودي يطل بوجهه السخيف وابتسامته الساخرة، “لماذا قمنا بالثورة؟” ولكن ما هو اكثر اثارة للشفقة والضحك هو محاولة الكثيرين الاجابة عن هذا السؤال، وتزداد المأساة تجسداً عندما تجتمع المتناقضات في اجابة واحدة تدعي لنفسها القدرة على المعرفة. ولكنك ما تزال تقف على مسافة ابعد مواجهاً خوفك الوراثي لتسأل “متى تقوم الثورة؟“
وفي نشوة انتصارك الموهوم، تهمس بهرطقاتك كالعادة، وبكل الخوف الذي كان وما يزال يملؤك بلا خجل “لا وطن يستحق التضحية، لا شعب يستحق الثورة من أجله، ولا ثورة إلا من أجل الحرية” تلك المخاتلة التي ستقضي على الاستبداد الاجتماعي بجميع اشكاله، استبداد المجتمع باعرافه وتقاليده، وتكسر عصا الخيزران اللاسعة التي يمسك بها بلطجي مراهق يدعي أنه يمثل طفل نزق غاضب ومدلل يسميه كذباً الرب لكي يفرض علينا استبداداً دينياً سيصنع مرة اخرى مستبداً اخر وإن لن يتجسد هذه المرة ربما في شخص واحد ولكن في سلطة المجتمع الذي مازال يبحث عن ثورته الحقيقية.
وحتى ذلك الحين سنقف عند أول الطريق مع الاقلية الصامتة في انتظار الحرية.