اقيمت مساء الاثنين 05/03/2012 محاضرة للروائي الليبي هشام مطر في كلية الدراسات الشرقية والافريقية بجامعة لندن، والتي عنونها الكاتب (رجال يتسللون على رؤوس اصابعم لمخدع الزوجية: الروائي والديكتاتورية) وقمت بكتابة بعض الملاحظات التي استقيتها من هذه المحاضرة المثيرة للاهتمام، وخاصة وانها تنتقل من العام إلى الخاص وتتحدث عن الحالة الليبية للروائي والاديب في مواجهة الديكتاتورية.
استهل المحاضر حديثه بالتركيز على حالة الفنان (الشاعر والروائي) في المنفى واستقى من تجربة الشاعر الروماني (أوفيد) والمشهور بكتابته عدة قصائد شعرية من اهمها قصيدته الملحمية (التحولات) وركز المحاضر حديثه عن حالة (أوفيد) بعد قرار الامبراطور (الديكتاتور) الروماني اوغسطس نفيه إلى إلى خارج روما إلى منطقة نائية على البحر الاسود تسمى توماش تقع في رومانيا الحالية. ويسرد (هشام) كيف أن أوفيد تعامل مع المنفى والاغتراب من خلال الانفصال عن المجتمع الروماني وكذلك الانفصال عن اللغة من خلال نفيه إلى منطقة لا يملك اهلها لغة مكتوبة. حالة المنفى التي يعيشها اوفيد تعبر عن علاقة الروائي (الفنان) بالسلطة الحاكمة (الديكتاتورية أو أي سلطة مشابهة) وتزداد هذه الحالة تعمقاً في نفس الفنان بانفصاله عن المجتمع واللغة والثقافة التي ينتمي إليها.
هذه الحالة التهميشية، ان صح التعبير، تتكرر في عدة مراحل، ويسرد المحاضر كيف تعامل المفكر ادوارد سعيد مع فكرة المنفى والابداع في كتبه ومقالاته، وهو نفس الحال مع الروائي الاسترالي اللبناني الاصل دافيد معلوف في روايته الثانية (حياة متخيلة) الصادرة العام 1978 والتي تدور حول حياة الشاعر (اوفيد) في منفاه في توماش والغربة اللغوية والثقافية التي عاشها حتى مماته.
يعرج (هشام) بعد ذلك إلى عرض فكرة المنفى والاغتراب لدى الفنان في العصر الحديث، وخاصة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، الفنان الذي يهجر المجتمع ويتعامل معه الآخرون ككائن غريب الاطوار، بل أن الكثير منهم يرى أن الحالة الابداعية للكاتب هي حالة انفصال عن المجتمع. وتصبح حالة المنفى الوجودي للفنان في داخل المجتمع ملازمة للابداع على الرغم من استمرار علاقته مع المجتمع وهي حالة عبر عنها الشاعر الانجليزي أودين “الكاتب في حالة حصار” ويعدد المحاضر الجماعات الادبية والفنية التي تكونت في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين والتي مارست حالة المنفى الداخلي الوجودي بانفصالها عن المجتمع ونبذها للعلاقات الاجتماعية لحساب الحالة الفنية الابداعية.
إلا أن علاقة الكاتب (الفنان) مع المجتمع ومع السلطة تشهد تغيراً في النصف الثاني من القرن العشرين، ويركز (هشام) على كتابات وفلسفة الروائي الفرنسي البير كامو وخاصة من خلال روايته المشهورة (الغريب) ويركز على أن الكاتب في هذه المرحلة يعود إلى سرد الحقائق بكل هشاشتها وخشونتها ولا يسعى للتنظير أو التعالي على المجتمع من خلال اعماله، بل إن الكاتب يؤكد على اتخاذه موقف في الحياة وتحوله إلى المثقف العضوي الفاعل في الحراك السياسي والاجتماعي للجماعة التي يعيش داخلها، إلا أن فعل الابداع في حد ذاته يستمر كفعل انفصالي يعبر عن غربة الفنان ومنفاه. موقف كامو يتعزز بموقف كاتب اخر في نفس الفترة هو جورج اورويل الذي يؤكد أن كل اعماله ركزت بشكل مباشر او غير مباشر على محاربة الانظمة الشمولية والفاشية في كل مكان.
إلا حالة الانفصال تبدو جلية من خلال اعمال كامو واورويل، حيث الشخصيات المنفصلة عن المجتمع، والتي تعاني من علاقة اغترابية مع الجماعة، وهو ما يعبر عن علاقة حزن سوداوية مع المجتمع يستطيع من خلالها أن يجد الكاتب والفنان مساحة من الحرية لممارسة فعل الانتاج الابداعي. ويتذكر هشام هنا رحلة قام بها مع والده إلى كهوف فزان الليبية والتي زينت برسومات قام بها فنان العصر القديم قبل آلاف السنين ويدلل إلى أنه الفنان احتاج إلى الانفصال عن الجماعة للتعبير عن حياة هذه الجماعة من خلال الرسومات الكهفية حتى في العصور الغابرة.
ثم خصص المحاضر الجزء الأخير من مناقشته للتركيز على الذكورية والاحساس بالانفصال من خلال تجربة الكاتب الليبي والرجل الليبي في مواجهة نظام ديكتاتوري. إلا أنه يذكر قبل ذلك مثالين لتعامل الكاتب مع السلطة الحاكمة من خلال الكاتب الفرنسي (اندريه مالرو) والروائي البيروفي (ماريو فارغاس يوسا). حيث يذكر كيف اقنع الجنرال شارل ديجول وبعد عدة محاولات الكاتب الفرنسي اندريه مالرو بدخول عالم السياسة والسلطة وتخليه عن حالة المبدع المنفصل عن المجتمع، ويسرد موقفاً ذكرته زوجة الجنرال ديجول في مذكراتها حيث تذكر ايفون ديجول الليلة التي عاد فيها زوجها الجنرال متأخراً وتسلل على رؤوس اصابعه لمخدع الزوجية وسألته أين كان هذه الليلة فرد “الليلة اغتلت اندريه مالرو” دلالة على موافقة الكاتب تعيينه وزيراً في الحكومة الفرنسية. بينما يسرد مشهداً مشابها حدث مع الروائي البيروفي المعروف ماريو فارغاس يوسا الذ قرر مطلع التسعينات ترشيح نفسه للرئاسة في البيرو وتسرد زوجته أنه في احد الليالي عاد فارغاس يوسا متأخراً من حفل انتخابي وتسلل إلى مخدع الزوجية وقالت له معاتبة “كنت يوماً ما متزوجة بروائي“.
ويدخل (هشام) إلى الحالة الليبية وخاصة الرجل الليبي المقموع في دولة حكمها الخوف لأربعة عقود، ويقول “أن الخوف في ليبيا قتل العديد من القصائد، الخوف قتل العديد من الروايات، لقد كان الخوف كالاشواك في الحلق”، وان الخوف قلص مساحة الحرية والتعبير للرجل والكاتب الليبي، حتى وصلت إلى مخدع الزوجية، حيث اصبحت المجاهرة بأي افكار او آراء ضد الديكتاتورية مغامرة محفوفة المخاطر. ويشبه هشام حالة الرجل الليبي خلال مرحلة القذافي بأنها حالة من الصمت والعجز، واصبح الكاتب الليبي يواجه ديكتاتورية لا تريد له أن يستمر لأن من طبيعة الديكتاتورية أنها تخشى من الكاتب والمبدع لأنه يصنع سرداً موازياً وعفوي يتعارض مع السرد الذي يريد الديكتاتور كتابته وفرضه على المجتمع. ويركز على تجربته في كتاباته الروائية وخاصة في روايته الأولى (في بلاد الرجال) الصادرة العام 2006 حيث كان في حالة من الصراع بين احساسه بالكراهية لنظام قمعي مس حياته الشخصية من خلال اعتقال وتعذيب وتغييب وقتل العديد من افراد عائلته على رأسهم والده (جاب الله مطر) الذي اختطف من قبل نظام القذافي العام 1990 في القاهرة ولم يعرف له اثر حتى اليوم، احساس الانتقام كان يدفعه لتعرية هذا النظام وكتابة نص روائي سياسي يشفي غليله. إلا أن احساس بالخوف انتابه كذلك، الخوف من قبضة الديكتاتور الحديدية، الخوف على افراد اسرته ووالده المعتقل من انتقام القذافي، مما قد يجعله يمارس الرقابة الذاتية على كتابته، إلا أنه في النهاية قرر أن يكتب روايته بعيداً عن أي احاسيس انتقامية أو خائفة، تاركاً للسرد أن يتجول بحرية دون سبق اصرار أو ترصد.
في نهاية محاضرته والتي استمرت لأكثر من ساعة، يختم هشام مطر بقوله أن القذافي قد يكون نجح في وأد الكثير من الكتاب والافكار والروايات إلا أنه لم يستمر وأن امام ليبيا والكاتب الليبي في مرحلة ما بعد القذافي، فرصة لممارسة الحرية، ويؤكد أن الروائي الليبي تحول من كائن ملاحق ومقموع إلى كائن يمارس حرية الكتابة. وأن مخدع الزوجية اصبح مكاناً للحرية المطلقة.