قصة: عزة كامل المقهور
كلما حل الربيع، تخرج فاطمة مع والدها إلى السواني القريبة، يستقلان السيارة الهيونداي البيضاء… تجلس فاطمة في المقعد الأمامي إلا إذا خرجت أمها معهما، فإنها تغطس في المقعد الخلفي إلى جوار الباب، لا يتجاوز رأسها الحافة السفلية للنافذة، وبالكاد تتجاوز قدماها الصغيرتان الممتدتان حاشية المقعد البارزة.
ما أن تقترب السيارة من السواني، حتى تنهض فاطمة….تثني ساقيها وتطل برأسها من النافذة ، و كلما ازدادت السيارة قربا، كلما تزاحمت سيقان النخيل وبدت كأنها تجمعات من البشر تتظاهر. وعلى إمتداد الأرض المكسوة بالعشب، يتناثر نوار “البقرعون” الأحمر القاني ذو السيقان الرفيعة، وتطل برؤوسها وريدات الأقحوان الصفراء منها، والبيضاء ذات القلب القطيفي الأصفر البارز، تعبث بها فاطمة بأصابعها الصغيرة المنتفخة حتى تتلون راحتها بالأصفر، وتبزغ شجيرات الزريقة بزهراتها البنفسجية المائلة إلى الزرقة.
تفتح فاطمة باب السيارة قبل أن تتوقف نهائيا، ينهرها والدها في كل مرة، تطأطأ رأسها قليلا، ثم تقفز بقدميها الصغيرتين على العشب المخلوط بأوراق “البليبشة” و”الخبيزة” شديدة الخضار، تتفادى وريقات “الحريَق” المسننة التي تلسع ما ظهر من ساقيها فتهيج طفحا أحمر عليهما وتنتابها الرغبة في هرشها. تجري وسط الحقول، يطير شعرها الأسود في الهواء خلفها.. يتبعها، تمضي الوقت تبحث بعينيها الواسعتين عن نباتات الهندباء البرية ذات كريات الريش النجمية البيضاء المنفوشة على قمتها، تنفخها فتتناثر في الهواء كريش الحمام المتطاير عندما تجري فاطمة خلفة وهي تصرخ لإخافته.
هذا الربيع لم تخرج فاطمة إلى السواني، لم تتجاوز قدماها الصغيرتان عتبة البيت، تبكي أمها طوال اليوم، حتى عندما لا تسقط القذائف من حولهم. امتلأ بيتهم بالأقارب الفارين من السواني للإقامة والمبيت عندهم، وفتحت دوائر في اسوار البيوت المتجاورة ينتقل الجيران من خلالها هربا من قنصهم في الشوارع، وانحشر الرجال في المربوعة الملحق بها حمام، بينما ترك بقية البيت للنساء والأطفال…. ولم تكف أمها عن البكاء… بكاؤها يعلو كلما تناهت اليهم اصوات القذائف في طريقها إلى السقوط، فتغمض النسوة عيونهن وتسد آذانهن وتضغط برؤوسهن فيما بين أكتافهن في انتظار لحظة الإنفجار…. تقلد فاطمة النسوة فيما يفعلنه، وإذا ما نسيت إحدى الحركتين، تغمض أمها لها عينيها أو تسد لها أذنيها بقوة وتخفي رأسها في جسد فاطمة الصغير وتبكي وتلهج بالدعاء…”ياربي ياربي سلمنا”.
كان الرجال في حركة دائمة يخرجون ويدخلون “المربوعة”، ويسمح لفاطمة لصغر سنها بالدخول اليها، بعضهم يعلق بندقية على كتفه يكثر من عدلها ورفعها نحو رقبته، يغطي بعضهم رأسه بكوفية حمراء تتدلى منها كريات وشراشيب، تتمنى فاطمة فيما لو تمسك وتلعب بها. دخولهم إلى المربوعة كما خروجهم في عجلة دائمة، يشربون “طاسة الشاهي” دفعة واحدة، يرددون “الله أكبر” وهم ينصرفون رافعين بنادقهم على اكتافهم. طرقت اذنيها كلمات لم تفهمها في البداية “الغراد”… “الهاون”… ” السكود”، إلا أن كلمة واحدة سرعان ما فهمتها “شهيد” حين
قال أحدهم أن قريب لهم تعرفه فاطمة جيدا خر صريعا برصاص قناص من “عمارة التأمين” ترددت الكلمة كل يوم “شهيد”… “شهيد”… شهيد”، ثم تكدست الجثث فبات الحديث عن “الشهداء”. ولأن فاطمة رأت هؤلاء مسجية أجسادهم على قطع القماش أو محملة على الأكتاف أو مرفوعة بأيادي الرجال وهم يسارعون الخطى كأنهم يسابقون شيئا ما يحوم حولهم، عرفت أن الشهيد هو من لا يقع على ركبتيه لكنه يسقط بكامل جسده مرة واحدة و يرحل فجأة إلى الأبد. أما بقية الكلمات فعرفتها بأصواتها المفزعة، ولهيبها المستعر، ودخانها الأسود الذي يستحيل إلى رمادي عند صعوده صوب السماء، عرفته بالغبار الذي ينهال على الرؤوس ويتسلل من شقوق النوافذ والابواب وينسل إلى الأنوف يغم الصدور وكأنه غمامة سوداء، ثم يغطي كل شئ.
قال أحدهم أن قريب لهم تعرفه فاطمة جيدا خر صريعا برصاص قناص من “عمارة التأمين” ترددت الكلمة كل يوم “شهيد”… “شهيد”… شهيد”، ثم تكدست الجثث فبات الحديث عن “الشهداء”. ولأن فاطمة رأت هؤلاء مسجية أجسادهم على قطع القماش أو محملة على الأكتاف أو مرفوعة بأيادي الرجال وهم يسارعون الخطى كأنهم يسابقون شيئا ما يحوم حولهم، عرفت أن الشهيد هو من لا يقع على ركبتيه لكنه يسقط بكامل جسده مرة واحدة و يرحل فجأة إلى الأبد. أما بقية الكلمات فعرفتها بأصواتها المفزعة، ولهيبها المستعر، ودخانها الأسود الذي يستحيل إلى رمادي عند صعوده صوب السماء، عرفته بالغبار الذي ينهال على الرؤوس ويتسلل من شقوق النوافذ والابواب وينسل إلى الأنوف يغم الصدور وكأنه غمامة سوداء، ثم يغطي كل شئ.
لكن معرفتها بمفردات الإنفجار بدأت تتوثق سريعا، تغير التعامل معه، ما أن يصرخ الرجال “جراد” … “جراد”.. حتى تنبطح النسوة والأطفال في وسط الصالة بعيدا عن النوافذ والأبواب.. تغطي بعضهن رؤوسهن بغطاء ارديتهن. لم يعد الرماد الخانق يتسلل، باتت الشظايا تخترق الأسمنت، وتهجم عليهم في الداخل وتخترق أجسادهم كالنصال المسنونة الحامية، تفلق لحمهم وتحرقه وتذيب اطرافهم، أصبح الرماد بقايا ركام البيت ومحتوياته وهي تتحطم فوق رؤوسهم. تحول كثير منهم إلى شهداء في برهة، يتساقطون فجأة، بينما هم يتحدثون أو يصَلون أو صامتون أو حتى يحلمون في بيوتهم، هكذا هم الشهداء ينفصلون عن من حولهم و يرحلون في لحظة.
لم ترغب فاطمة أن تصبح شهيدة… أن ترحل عن والديها وأخوتها والاقارب والجيران الذين يعج بهم البيت والرجال المتأهبون في المربوعة… لم ترغب رغم كل ما سمعته عن الجنة، والملائكة، وحور العين، والأنهار التي لم تراها قط، كانت ترغب فقط في أن تجلس إلى جوار والدها أو في المقعد الخلفي للسيارة الهيونداي البيضاء وتشق خضار السواني وورودها.
حل الربيع ولم تذهب فاطمة إلى السواني المجاورة تلتقط مع امها أعشاب “المردقوشا” لخلطها بحبوب “الشاهي” الأحمر، وتقتطف نوار “البقرعون” فتتساقط وريقاته الرهيفة وتتبعثر حبيبياته السوداء المخفية وسطها، تعفس بقدميها الصغيرتين على “الديس” لتمسع هسهسته، وتداعب حوافه ساقيها.
تجلس فاطمة هذا الربيع على طاولة في المستشفى، تمد قدمها إلى الطبيب تخضع لعملية جراحية دون تخدير، بعد أن انغرست شظية في بطن قدمها اليمنى. كانت تصرخ من ألم الحرق الذي كان أقوى بكثير من نبات “الحريَق”، وقد تدفق الدم بلون أشد قتامة من حمرة نوار “البقرعون”… تجلس فاطمة تجاهد عدم الحركة بينما يحتضنها والدها من الخلف… تردد خلفه ما تحفظه من قصار السور.
عاشت فاطمة، وأقتُلعت الشظية من قدمها البضة الصغيرة، قبضت بيدها عليها، اتكأت على يد والدها وبدأت السير….