كثيرة هي النقاشات التي دارت وما تزال حول مسألة النقاب والتي ازدادت حدة مع وصولها إلى أبواب برلمانات بعض الدول الاوروبية لتقنينها ووضع العديد من الموانع والحواجز القانونية لتفادي، حسب وجهة النظر السياسية، انتشارها وممارسة الاضطهاد الذي تمثله ظاهرة تغطية المرأة بهذا الغلاف الذي يغلب عليه السواد.
ونظراً لتعدد مستويات النقاش التي قرأنا أو سمعنا عنها، والتي كانت معظمها تدور في فلك التبرير الديني والاخلاقي والفكري من جهة وبين عرض الاختلافات الثقافية والاجتماعية التي تجعل من فكرة انتشار هذه العادة أو الطقس الديني في الدول العلمانية واللبرالية الاكثر تنمية، مستهجنة، إن لم تكن مرفوضة، كونها بحسب وجهة نظر الاغلبية في هذه الدول، تمس بأهم محددات فكر التحرر من كل اشكال السيطرة الفكرية، والدينية على وجه الخصوص.
لكنني لن أقترب من هذه المستويات كلها، بما فيها المستوى الذي يبرر مدى جواز أو استحباب أو فرض هذا الطقس الديني (النقاب، الخمار، البرقع وجميع المسميات الاخرى التي تحث على تغطية جميع أجزاء جسد المرأة عدا العينين وفي بعض المذاهب، حتى العينين) فكل هذه النقاشات التبريرية لا تعنيني، كونها جميعها تقع في دائرة خارج حدودي البيولوجية، ولاعتقادي أن للمرأة مسؤولية نقاشه من خلال خلفيتها التكوينية لأنه موجه إليها فقط، وعليها الخروج والامساك بزمام مبادرة نقاش هذه المسألة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تكمن في رفضي الفكري لكل اشكال التعبد الظاهرية والتي تفترض امكانية الوصول للمعرفة المطلقة لحكمة "إلهية" وراء مجموعة من الاوامر والطقوس الدينية، مازل الجدل حولها في داخل المنظومة الدينية نفسها مستعراً.
ما يعنيني في هذا المجال هو التحليل النفسي للظاهرة الدينية في هذا المسألة تحديداً، والتي جعلتها قادرة على فرض المزيد من العوائق والموانع على الكائن البشري بغرض واحد، هو الوصول لتحقيق الرضا "الالهي" ومن ثم الحصول على الجائزة المفترضة في حياة أخرى تسودها العدالة والحرية.
فالفكر الديني يفترض منذ البداية قدرة الانسان على ارتكاب الخطيئة، بل إنه في بعض الأحيان، يأتي إلى هذه الحياة نتيجة الخطيئة، كما يفترض الدين أن الكائن البشري في تشابهه بالوحشي الحيواني قادر على ارتكاب الافعال التي تؤدي إلى المزيد من الآثام والخطايا، بل إن الإنسان الأول بحسب القصة الدينية الرئيسية في الاديان الاكثر انتشاراً، تفترض أنه قد نزل إلى الارض بعد عصيانه لأوامر الرب، وخرج بذلك من الجنة السماوية إلى الجحيم الارضي، لكي يعود إلى الجنة ولكن بعد تعب وشقاء ومعارك مع الذات والآخر.
إذن فالفكر الديني، يرى أن على الانسان العمل في هذه الحياة لكي يثبت أنه لا يحمل من الاوزار والخطايا ما يقذف به إلى غياهب الجحيم في الحياة الأخرى، لذا نرى أن معظم الأوامر والنواهي الدينية التي ليست ضمن الحس المشترك للبشر (الاخلاقيات المشتركة، أو الحس المشترك الاخلاقي، هي تلك الصفات التي يجتمع فيها كل البشر وحتى الكائنات الحية الأخرى، بغض النظر عن الاختلافات الدينية، من بينها القتل، السرقة، الاغتصاب، الكذب، خيانة الامانة وغيرها)، نرى ان معظم هذه الاوامر ليست مهمة في جوهرها ومغزاها، ولا تعتمد على منطق عقلي، ولكنها مهمة من الناحية الايمانية الصرفة، لذا لا يحتاج الانسان المؤمن بها إلى أي مبررات أو أدلة عقلية تحليلية للقيام بها وتنفيذها، فهي طقوس تهدف بدرجة أولى إلى قياس درجة إيمان وإلتزام الفرد دينياً وبالتالي مدى قربه إلى الإله ورضاه عليه ومن ثم ضمان الحصول على النعيم الاخروي، وبدرجة ثانية تهدف إلى تحقيق هوية مشتركة للافراد الملتزمين بهذه الطقوس والاوامر الدينية، تميزهم عن غيرهم من البشر في هذه الحياة، أولئك البشر الذين حتماً سيخسرون هذا السباق للفوز بجنة النعيم، ويحضوا بذلك بسخط الاله وعقابه.
كما أن هناك جانباً آخر مهم في النظرة الدينية للكائن البشري، وهو التفسير الديني لتكوين الانسان، حيث يفترض أن الانسان عبارة عن روح وجسد، وأن الروح مصدرها الإله لذا فإنها أكثر نقاء وطهارة، ولكن بدخولها الجسد لتمنحه الحياة، تصبح مكبلة داخل هذا الوعاء الفيزيائي الممتلئ بالخطايا من الشهوات الجسدية، والمنغمس في القذارة والنجاسة، لذا فإن الطريق الوحيد لتخليص الروح من ربقة الجسد وادرانه هو السمو به من ملذات الدنيا والشهوات التي ستؤدي بالروح إلى الفساد وتحميلها الاوزار والآثام المؤدية إلى التهلكة في الآخرة.
لذا فإن معظم الطقوس الدينية تسعى بشكل أو آخر إلى تكبيل هذا الجسد وشهواته ومطالبه، بل يصل في بعض الأحيان إلى معاقبته لتطهيره من الدنس المرافق له دائماً، كما أن الدين يأمر اتباعه على استباق أي أسباب قد تؤدي لمطالبة الجسد بالمزيد من الشهوات والملذات بمواجهتها بعدد من الطقوس الدينية الصارمة التي تهدف إلى ترويضه وتكبيله على أمل أن يمنحهم ذلك فرصة الفوز بالرضا الالهي والذي يستتبعه النعيم الأخروي.
ولعل نظرة الدين إلى الشهوة الجنسية تكمن في كونها أكثر الشهوات الجسدية قدرة على تدنيس الروح، بل إن المفهوم الديني للجنس تتمثل في أنه وسيلة حيوية للتكاثر والحصول على مزيد من المؤمنين بهذا الدين وفي أقصى حالاته بناء علاقة مودة وتراحم بين الذكر والانثى في اطار منظومة الزواج، لذا يصبح الجنس هماً اساسياً للدين ينبغي لجمه والسيطرة عليه، ووضع اشكال للعقاب في حال تجاوز وسائل السيطرة من أوامر ونواهي، وجميعها تهدف لمعاقبة هذا الجسد الشهواني المنغمس في الخطيئة، وبذلك تغدو كل اشكال استثارة هذه الشهوة المحرمة، من المحرمات هي كذلك.
ولعلني لا أبالغ بالقول أن الحجاب أو الخمار أو النقاب، وتنوعاته تهدف إلى معاقبة الجسد وتقييد الشهوات الآثمة في داخله، بل إنها تمثل، في حالة النقاب هوساً دينياً، يظهر مدى قدرة الفكر الديني على السيطرة ليس فقط على وعي وعقل المؤمن ولكن أيضاَ على جسده، بل إنه بذلك يحول المرأة إلى مركزاً اساسياً للغواية والشهوة الجسدية الجنسية المحرمة، لذا وجب تغطيتها بأكبر قدر ممكن لتحقيق المزيد من التقرب إلى الإله، وإلجاماً لشهوة الجسد وتطهيراً له وسمواً بالروح للفوز بالنعيم الأخروي، وذلك بتقديم المرأة التضحيات الجسدية المختلفة من أجل طهارة الروح.
اعترف بعدم قدرتي على الإلمام بالتجربة النفسية للإنسان المؤمن والذي اختار بحرية كاملة وعن وعي ممارسة عدد من الشعائر والطقوس الدينية التي تهدف بدرجة أولى إلى التقرب من الإله والفوز برضاه وجنته، وبدرجة ثانية ترسيخ هويته الدينية الجمعية للجهر بفخره لإنتمائه لهذا الدين أو ذاك من خلال طقوس ظاهرية لا يمكن أن تخطأها العين المراقبة، وحيث يصبح الأمر أكثر أهمية، وربما ثواباً، في المجتمعات ذات الثقافة المختلفة المغايرة، وربما المعادية، لتغدو مظاهر دينية كالنقاب شعاراً سياسياً وثقافياً لمخالفة الآخر، واستفزازه في بعض الأحيان، ورفضا للثقافة السائدة في هذه المجتمعات العلمانية اللبرالية في مجملها.
ولكن الأكثر اثارة للقلق، بالنسبة لي، أن يتحول احد رموز القمع الجسدي، كالنقاب، إلى رمزٍ لحرية التعبير، وشعاراً سياسياً للكفاح من أجل المزيد من الحرية الدينية.