كيف يستطيع الأدب، والفن بشكل عام أن يعرض التراجيدية والمأساة الانسانية بطريقة ساخرة وأقرب للخيال منها لواقع تاريخي مأساوي حدث منذ زمن غير بعيد، وما تزال جراحه تنزف وما تزال تفاصيله حاضرة في الذاكرة الجمعية للمجتمع؟. إن كانت الرواية التاريخية تحاول أن تكون مخلصة بقدر الامكان بالحدث بشخوصه وامكنته وتفاصيله مع محاولة ملئ الفراغ ببعض الخيال غير المخل بالحقائق والمسلمات، إلا أن محاولة عرض المآسي البشرية بطريقة ادبية ساخرة وتجريدها من كل الحمولة الاخلاقية التي تضفي عليها الكثير من القداسة وفي بعض الاحيان الحصانة من محاولات توظيفها خارج اطار الاحساس بالذنب وتأكيد حضورها في الواقع المعاش لتجنب تكرر هذه المآسي في المستقبل البشري المعرض للنسيان وتكرار الاخطاء بشكل مستمر، تكون دائماً محفوفة بالمخاطر وربما الفشل.
في روايته الصادرة حديثاً، يحاول الكاتب الكندي يان مارتيل من خلال روايته (بيتريس وفيرجيل)، عرض جانباً من حياته ككاتب يصاب بالاحتباس الابداعي بعد النجاح المنقطع النظير لروايته الثانية (حياة باي) التي صدرت العام 2002 وحازت على عدة جوائز عالمية من أهمها جائزة بوكر البريطانية وصدرت باكثر من ثلاثين لغة، وبيع منها الملايين من النسخ، وهو النجاح الذي ساهم في عودة الرواية الادبية لقائمة افضل الكتب مبيعاً في العالم والتي تسيطر عليها دائماً روايات الاثارة والجريمة والخيال العلمي.
ومن خلال الشخصية الاساسية في الرواية (هنري) والذي يتشابه مع يان مارتيل في الكثير من التفاصيل، يقدم لنا محاولة الكاتب وبعد خمس سنوات من العمل على كتاب يعرض مأساة المحرقة أو الهولوكوست بطريقة ساخرة، في شكل كتاب من جزئين، الأول هو رواية قصيرة والثاني مقالة أو دراسة نقدية حول فشل محاولات ادبية وفنية سابقة تقديم صورة خيالية وغير توثيقية للهولوكوست وما تعرض له اليهود من محاولة للابادة العرقية الجماعية في الحرب العالمية الثانية، إلا أن (هنري) يفاجأ بعد اجتماعه بوكلائه الادبيين ومندوبي دار النشر ومحلات بيع الكتب أنه لا يمكن نشر واصدار هذا الكتاب المزدوج وذلك لعدة اسباب فنية وتسويقية، ملقياً بالعمل برمته إلى سلة المهملات وتاركاً هنري في متاهة ضياع خمس سنوات من العمل، إلا أنه وبعد جولة تأملية في حديقة لندنية، يقرر أن يستقر مع زوجته في احد المدن العالمية الكبيرة، دون ان يحددها في الراوية، ويمضي الوقت في تعلم العزف على ألة موسيقية (الكلارينت)، وينضم لفرقة مسرحية من الهواة، ويعمل كنادل في احد المقاهي ويمضي باقي وقته في الرد على رسائل المعجبين والقراء وفي تربية قط وكلب ومنتظراً أن تلد زوجته (سارة) الحامل في الاشهر الاخيرة مولودهم الأول. في خضم هذه الأحداث الرتيبة يتعرف (هنري) على كاتب مجهول يرسل له جزءً من مسرحية درامية طالباً مساعدته على استكمالها.
يتعرف (هنري) الكاتب، على (هنري) محنط الحيوانات والذي ارسل له مسرحية غرائبية يعكف على كتابتها منذ عشرات السنوات تدور احداثها على لسان حمارة محنطة تدعى (بيتريس) وقرد محنط يدعى (فيرجيل) في اشارة لأحد اهم الشخصيات في ملحمة الشاعر الايطالي دانتي اليغيري (الكوميديا الالهية). يدخل هنري الكاتب المصاب بالاحتباس الابداعي عالم هنري المحنط غريب الاطوار وحاد الطباع، عالم ملئ بالحيوانات المحنطة بطريقة تجعلها أقرب للحياة من الموت، حيوانات من كل شكل ونوع ولون، حيوانات قتلت بطرق متعددة وكانت نهايتها التحنيط بطريقة فنية دقيقة للحفاظ على نضارة الحياة في شكلها الخارجي، إلا أنها ميتة منذ عشرات السنين، ومن خلال احداث الرواية التي نقرأ من خلالها اجزاء مطولة من المسرحية التي كتبها هذا الرجل العجوز الذي لا يبتسم ولا يظهر أي نوع من المشاعر الانسانية، كما نقرأ اجزاء من قصة قصيرة للكاتب الفرنسي فلوبير حول سعي شاب لقتل اكبر قدر ممكن من الحيوانات في العالم.
وبين تفاصيل المسرحية بلسان الحمارة والقرد، والوصف المفصل والمبدع الذي يقدمه يان مارتيل لمحل الحيوانات المحنطة والوصف الدقيق لكل من القرد المحنط فيرجيل، والحمارة بيتريس، والحوارات السريعة بين هنري الكاتب وهنري المُحِنط، حتى نصل إلى النهاية السريعة والتراجيدية للرواية، يحاول يان مارتيل عرض الهولوكوست بطريقة مسرحية ساخرة ومبتذلة احياناً، من خلال وصف مأساة الهولوكوست الذي تتعرض له الحيوانات والاهم من خلال الحوار الذي يدور بين بيتريس وفيرجيل حول هذه المأساة والرموز التي يقدمانها للتعريف بهذه التراجيديا الرمزية الحيوانية والتي بطبيعة الحال تحاول اختزال التراجيدية البشرية التي حدثت في الحرب العالمية الثانية وماتزال تتكرر في اكثر من مكان كل يوم.
الرواية كتبت بشكل سرد متواصل دون تقسيمها لفصول، كما ان اعتماد الكاتب على التجريب متعدد الاشكال، من خلال عرض اجزاء كاملة من المسرحية، أو تقديم اجزاء منها مطبوعة بالالة الكاتبة، إلى جانب ثلاثة عشر بطاقة في نهاية الرواية وبعد انتهاء الاحداث تحوي اسئلة اخلاقية عن كيفية التعامل مع المآسي الانسانية، وهي أفضل اجزاء الكتاب واكثرها عمقاً، كما أن الوصف الدقيق والابداعي يمثل اقوى اجزاء السرد الروائي المكثف والمختزل والسريع والذي يفشل في كثير من الاحيان في ملئ الفراغات السردية وفي الاغلب قد يسبب بعض الازعاج والملل لبعض القراء. كما أن صدور هذه الرواية التي وصفها معظم النقاد في الصحف الامريكية والكندية والبريطانية بالمتواضعة جاء بعد اكثر من ثماني سنوات من النجاح الكبير الذي حظيت به رواية يان مارتيل الثانية (حياة باي) والتي اعتبرت في حينها احد أفضل الروايات في مطلع القرن، وهو ما خيب آمال الكثيرين وخاصة أن الكاتب لم يخرج من عالم الحيوانات والرموز غير المباشرة، وهروبه من تقديم سرد روائي جديد ومختلف عن روايته السابقة، والتي يبدو أنها قد اصابته بلعنة النجاح الذي يفترض تحدياً اكبراً للخروج من تطلعاته.
وعلى الرغم من محاولة يان مارتيل عرض مأساة انسانية مثل الهولوكوست في قالب خيالي ساخر، إلا أن حساسية الموضوع بشكل عام وادعاء الكاتب أن هذا الموضوع لم يقدم من قبل بهذا الشكل، جعل الرواية تبدو غير عفوية وتلقائية في الكثير من اجزائها، وتركها اقرب للمحاولة اليائسة للخروج من حالة الاحتباس الابداعي منها إلى محاولة جادة ومخططة لكتابة ابداعية حديثة. إلا أنني لا أخفي أنني اعجبت بالمحاولة بشكل عام، كما استرعى انتباهي واستفزني قدرة يان مارتيل على الوصف الابداعي الدقيق والعميق، وبدا كما لو أنه يحاول استعراض مهاراته الادبية ليثبت أنه ما يزال قادراً الاستحواذ على مخيلة القارئ، كما أن التجريب المسرحي والنهاية المأساوية جعلتني اصاب بالحيرة تجاه واقعية الاحداث في الرواية، على الرغم من خياليتها، وبقي في داخلي حنين خفي للقاء ذلك القرد المفوه والقادر على وصف ثمرة كمثرى بشكل محسوس حتى أنك ستشتهي واحدة، وتلك الحمارة المصابة بالخوف والهلع والباحثة عن أحلام اكثر فرحاً في اغفائاتها القلقة والمتقطعة.
رواية (بيتريس وفيرجيل) للكاتب يان مارتيل، ليست في مستوى روايته (حياة باي)، كما أنني أجد من المجحف محاولة مقارنة الروايتين، فلكل منهما اسلوبه وطريقته في عرض المأساة الانسانية، وإن كانت حياة باي تتمتع بقدر كبير من الامل وانتصار الارادة الانسانية، فإن بيتريس وفيرجيل، لا تثير في النفس سوى المزيد من الحيرة والقلق وربما اليأس، ولعل البطاقات والاسئلة التي توزعت في نهاية الكتاب اكبر دليل على ضعفنا الانساني وعدمية وعبثية الحياة التي نواجهها وبطلان الادعاء بقدرتنا على تغيير الواقع المأساوي، مهما اختلفت المسميات، أو تبدلت الادوار بين المجرم والضحية.