كثيراً ما يستفزني الخلط والتشويش الذي يمارسه البعض ضمن النقاشات التي تدعي ايمانها بحرية التعبير والرأي، وخاصة تلك التي يفتقر فيها احد طرفي النقاش إلى الادلة المنطقية والعقلية لمساندة رأيه أو الفكرة التي يطرحها. فما أن يعرف بأنه لن يستطيع محاججتك، وتقديم وجهة نظره المبنية افتراضاً على أدلة منطقية، فإنه سيقوم باشهار سلاح القمع الفكري من خلال ادوات المغالطات المنطقية، ويتهمك بأنك تحاول قمع رأيه أو رأي الاغلبية أو رأي الاخرين من حولك، وأنك لا تمنح للآخرين حريتهم في التعبير وتقديم وجهات نظرهم بحرية كاملة.
المشكلة تكمن من وجهة نظري (غير الموضوعية كالعادة والتي لا اسعى لفرضها على الاخرين) أن مفهوم حرية التعبير في ثقافتنا المقموعة بالعديد من الاحداث التاريخية والسلطات السياسية والدينية والاجتماعية، ونظم التربية والتعليم التلقينية والتسلطية، يعاني من الكثير من التشوهات الخَلقية والخُلقية، لعل أهمها هو التصور المسبق في العقل أن الرأي يشبه الحكم أو هو أقرب للقرار السلطوي القامع، من كونه وجهة نظر تحتمل الصواب والخطأ والنقاش والرد، كما أن العقلية المركزية التي لا ترى العالم إلا من خلال التصور الاقصائي الفردي المنغلق لا تستطيع أن تستوعب تعدد الاراء الفردية المستقلة والتي تختلف أو تتفق في الجزئيات أو الكليات.
كما أن حرية الرأي والتعبير، يجب ان تقف، من وجهة نظر هؤلاء، عند خطوط مقدسة لا يقبل النقاش حولها، حتى وإن كانت هذه المقدسات من وجهة نظرهم فقط قد تتسبب في العديد من المشاكل للفرد والمجتمع وتخالف المنطق والعقل، فمن وجهة نظرهم لا مكان لحرية التعبير أمام السلطة الحاكمة والقامعة السياسية والدينية، ففي النهاية من أنت لكي تخرج علينا وتتطاول أمام هذه الرموز التي تملك الحقيقة المطلقة والازلية والمقدسة والتي حتى وإن سمحت لك بمناقشتها فإن ذلك لا يعدو كونه مجرد تسامح وصدقة تقدمها لك، فما عليك إلا أن تكون ممتناً، مديناً لها بالشكر والعرفان لأنها سمحت لك بأن تطرح وجهة نظرك، والتي في نهاية المطاف لن تكون سوى تخاريف عقل غزته الثقافة الغربية بأفكارها الفاسدة والهدامة، أو انها ستلجأ لقمعك من خلال اتهامك بمحاولة فرض رأيك على الاخرين وأنك لا تريد أن تسمح لهم بتقديم وجهة نظرها، وأنك لا تؤمن بحرية الرأي والتعبير وأنك لا تؤمن بالديمقراطية وحقوق الانسان، وربما ستصبح مسؤولاً عن كل المآسي التي تحدث في البلاد نتيجة قمعك اللامعقول لحرية التعبير.
حرية الرأي والتعبير، تفترض المساواة في حق الانسان للنقاش، كما تفترض تساوي جميع الاراء المطروحة، وتكفل للجميع حرية الرد والرد المضاد في حدود القانون بعيداً عن العنف الكلامي الرمزي والجسدي، للجميع الحق في التعبير عن رأيهم عن كل شيء وفي أي شيء بلا خطوط مقدسة أو ملونة، وللجميع في نفس الوقت الحق في الرد بنفس الطريقة، دون ان تكون هناك نية مسبقة لإقناع من أمامك بوجهة نظرك أو رأيك، فهذه قد تكون أحد نتائج النقاش الحر ولكنها ليست الهدف من أي نقاش يسعى بالدرجة الأولى إلى سبر الآراء المتعددة حول موضوعة ما، وممارسة هذه العملية التفاعلية السلمية والآمنة، التي يستطيع المجتمع من خلالها القضاء على مظاهر القمع والتطرف والعنف.
ومازال الطريق طويل أمامنا…