استدراك:
لا تبحث هذه المقالة مسألة علاقة الأدباء الأطباء، بالأدب والطب والعكس، وإنما تسعى لعرض (ترفي إن صح التعبير) لأهمية تدريس العلوم الإنسانية والتي من أهمها الأدب لطلبة الطب ومن ثم الأطباء لتحقيق فائدة قد لا تبدو ملموسة للوهلة الأولى في علاقة الطبيب المعالج بالمريض، وطريقة تفسيره للمرض في العالم، وكنت قد كتبت الخطوط الأولية لها منذ العام 2000 على أمل توسيعها على شكل كتاب بحثي قد يكتب له النشر في المستقبل القريب.
**
صفر تارو بفمه صفيراً، بينما راح الطبيب ينظر إليه، وقال الطبيب:
– نعم إنك تقول لنفسك، إنه لا بد أن الأمر لا يخلو من الغرور، ولكن ، صدقني، ليس لدي من الغرور إلا القدر الضروري، لست أدري ماذا ينتظرني، ولا ماذا سيحدث بعد كل هذا، أما في الوقت الحاضر، فهناك المرضى الذين يجب علينا علاجهم، وبعد ذلك سيكون لديهم- ولدي أنا أيضاً- من الوقت ما يفكرون فيه، ولكن علاجهم هو المسألة العاجلة التي لا تحتمل التأجيل، إني أدافع عنهم بقدر مالا أستطيع، هذا كل ما هنالك.
– ضد من؟ (…………)
– لا أدري شيئاً يا تارو، أقسم لك أنني لا أدري شيئاً. فعندما دخلت هذه المهنة دخلتها من غير شعور، لأني كنت في حاجة إليها، لأنها عمل كغيرها من الأعمال. عمل من تلك الأعمال التي يهفو إليها الشبان، وقد يكون ذلك أيضاً لأنها مهنة عسيرة المنال جداً على شخص مثلي من أبناء العمال، ثم كان لا بد لي –بطبيعة الحال- أن الناس يموتون، أتعرف أن هناك أناساً يرفضون أن يموتوا؟ هل سمعت يوماً امرأة تقول: ” أبداً” في لحظة احتضارها؟ أما أنا فنعم، وقد لاحظت حينئذ أنه لن يمكنني اعتياد ذلك، كنت شاباً في ذلك الحين، وظننت أن ما شعرت به من اشمئزاز ينصب على نظام العالم نفسه، ولكنني أصبحت أكثر تواضعاً بعد ذلك، غير أني لم أستطع أن أعتاد رؤية الناس يموتون، أما فيما عدا ذلك فلست أدري شيئاً…” (1)
**
المرض..المريض.. الطب..الطبيب… هذه هي حياتنا، تدور في فلك هذه المحددات وغيرها. تبدأ حياة أحدنا بمواجهته المرض وتبدأ حياتنا كأطباء بمواجهة المريض بعد أن نكون قد خضنا معارك في محاولة السيطرة على علوم الطب الهلامية، نمر في مراحل تطورنا بعدة محطات ونتعايش مع المرض والمرضى ومع ذواتنا والزملاء بطريقة أشبه بالآلية، وخلال رحلتنا تلك نفقد شيئاً ونكتسب أشياء، نسعى لكسب العلم، المهارة، ونفقد التأمل والاستبصار. ندخل لكلية الطب من بيئات مختلفة وبملكات مختلفة ومواهب فطرية ونخرج منها وقد فقدنا هذا التنوع في شخصياتنا، وامتلاءت مكتباتنا بالكتب الضخام والأوراق المبعثرة.
في هذا المقال أحاول تدشين الحديث عن رؤية حديثة في وسطنا الطبي المحلي والإقليمي، بعد أن نالت الكثير من النقاش في الوسط الطبي الغربي. السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا الطب ؛ كعلم وأفراد ومجتمع ورغم تعامله مع حقائق الحياة والموت في كل يوم راح يفتقد الروح، يفتقد الإحساس بأنه حي، ويغدو أفراده جامدين لا يتعاملون إلا مع الحقائق الطبية والعلمية وبشكل مطلق. إن أفراد المجتمع الطبي هم أناس يمتلكون مواهب أخرى غير موهبة الجلوس ساعات طوال وعيونهم مسمرة بكتب الباطنة والجراحة ثقيلة الوزن والمعلومات، ولكنهم في خضم هذه المعركة الطبية تخبو مواهبهم و مهاراتهم، وبذا يخبو جانب مهم في تركيبة شخصيتهم الطبية والذاتية.
*نظرة تاريخية..
أظهرت الدراسات التربوية أن الأنشطة المصاحب
ة للعملية التعليمية سواء الأنشطة الرياضية أو الفنية أو الأدبية، تمنح الطلبة متسع من الوقت لكي يظهروا مواهبهم، كما تعطي لهم القدرة على مواصلة الدراسة بشغف. إلا أن كليات الطب في معظم أنحاء العالم لم تضع في برامجها الدراسية، أنشطة غير منهجية مصاحبة للمقررات، رغم أن الأطباء هم أكثر من يحتاجون إلى إثراء تجربتهم بخبرات أخرى فنية كانت أو أدبية ليكتسبوا بعد نظر في حياتهم العملية وخاصة وأنهم يتفاعلون مع الإنسان الذي قد يأتي من بيئات اجتماعية مختلفة، وإلى جانب أن اكتساب مهارة القدرة على الاتصال مع المرضى أو كما يصطلح عليه علاقة الطبيب بالمريض Doctor Patient relationship هي من أهم وأول المهارات التي يتم بموجبها تقييم الطلبة لدخول عالم المرضى الحقيقي وهذه المهارة لا يتم التدرب عليها إلا خلال عامين دراسيين فقط ضمن برنامج الست سنوات بكلية الطب من خلال التكرار والتجربة والخطأ وبالتوجيه المستمر من قبل الأطباء الأقدم.
ومع نهاية القرن الفارط بدأ المسئولون عن كليات الطب بالولايات المتحدة الإحساس بهذه المشكلة وبدأ النقاش يتفاعل حول أهمية تدريس الفنون والعلوم الإنسانية لطلبة الطب بمقررات اختيارية. في العام 1988 أنشئت جامعة تكساس الفرع الطبي، معهد الإنسانيات الطبية والذي يمنح برامج تدريسية في العلوم الإنسانية ذات العلاقة بالطب مثل التاريخ، الفلسفة، التربية، علم الاجتماع والأدب. ثم جاءت جامعة نيويورك ووضعت برنامجاً للتعليم عن طريق الشبكة العالمية خاص بالفنون والإنسانيات والأدب.
في العام 1993 أوصى المجلس الطبي العام General Medical Council(GMC) ببريطانيا ومن خلال كتيبه الذي يصدره تحت عنوان ” أطباء الغد” Tomorrow’s Doctors والذي يعبر عن أهداف المجلس وتطلعاته لمتطلبات الأطباء الجدد، حيث أوصى بإنشاء ما أصطلح على تسميته وحدات الدراسة المتخصصة Special Study Modules (SSMs) ويعنى البرنامج بوضع الإمكانيات أمام الطلبة لكي يختاروا دراسة مواضيع أخرى تتعلق باهتماماتهم وأن تكون معظم الدراسات ذات علاقة بالطب ولكن ليس بشكل كلي ويتابع الكتيب في القول “بأنه يرتجى من طلاب الغد أن يتجهوا إلى اهتمامات أخرى وأن فرص الدراسة على سبيل المثال للغات أو الأدب أو التاريخ الطبي ستتاح لهم.” (2)
ومن هذا المنطلق أنشئت جامعة (دارم) (مركز الفنون والإنسانيات في الصحة والطب) Center for Arts and Humanities in Health and Medicine (CAHHM) وذلك بغرض ” الرفع من درجة الوعي للتخصصات الجديدة في الإنسانيات الطبية والفنون في الصحة، ضمن أفراد الفريق الطبي وكذلك بالجامعات” (3) ومنذ العام 1997 يشرف على تقديم دورات اختيارية لطلبة السنوات الثانية والثالثة في الأدب تحديداً.
في مقالي الافتتاحي هذا سيدور حديثنا حول الأدب والطب، ولكن يتبادر للذهن منذ البداية لماذا الأدب؟
* الأدب والطب….لماذا؟
لن يدفعنا تساؤلنا هذا إلى تعداد الأطباء الذين تحولوا أدباء فهذا ليس محور بحثنا وإن كان الأمر لا يخلو بطبيعة الحال من أن الطب بيئة ممتازة لإثراء مخيلة أديب موهوب جاء ودرس الطب ولكنه كان يحمل بذرة الكاتب في داخله قبل ذلك. ولكن السؤال هنا لماذا الأدب وما علاقته بالطب؟.
إن الأدب يهدف لقول أشياء عديدة في نفس الوقت، بينما العلم يبحث عن إجابة واحدة في خضم ضباب من البيانات. الأدب يعتمد على عدم قدرته على نسخ أجوبة واحدة وهذا ما يجعله غير علمي أو بشكل آخر لا يسير على أرضية صلبة. يقدم الأدب في الدراسات النظرية إما جمالياً أو أخلاقياً وكذلك عاطفياً، إن هذه القيم أو طرق دراسة الأدب ستساعد الطلبة والأطباء على صقل مهارات الاتصال لديهم ليكون أخلاقياً وأكثر عاطفية. ولكن للأسف ليس هناك أدلة مُرضِية على جدوى ذلك. إن تحسين الاتصال بدراسة الأدب يمنح الطبيب سلاسة في اللغة العادية ويساعد على توضيح المشاهدات والتعابير والمعرفة الشخصية وهذا في الأغلب له علاقة بالسرد Narrative فالكتابة عن المرضى والأحداث الطبية بواسطة لغة عادية (سرد نثري) بدل من استخدام مصطلحات تقنية سيمكن الطلبة والأطباء من استكشاف المعرفة التي بباطنهم وبباطن مرضاهم.
قد يبدو هذا الكلام أدبياً أو لنقل محسوساً ولكن بمفاهيم العلم من الصعب إثباته، بالأحرى ما هي المقاييس التي على أساسها يمكننا القول بأن الإطلاع على الأدب من قبل الأطباء سيكون مفيداً لهم، هذه أحد المشاكل التي يلتقي فيها الأدب مع الطب، فالأدب منذ مائتي عام لم يكن يملك كياناً منهجياً علمياً، وحتى أسلوب التقييم كان يبدو شبه غير ممكن، فمشكلة الأدب أنه يثري حاسة الذوق ويهذب العاطفة كما أنه يوسع المدارك، وهي أشياء رائعة ولكن لا يمكننا تقييم الذوق أو العاطفة.
فالأدب يتعامل مع المعاني القيمية لا مع المسلمات، ومع تكافؤ الأضداد بدلاً من الاختزال والاختصار وبشكل عام يتعامل الأدب مع العالم حيث ليس كل ما يريد الشخص معرفته خاضع للتجربة، وهذه الحقيقة لا أعتقد أنها ستختفي من الأدب ولا أعتقد أنها قد تختفي من حياة الطبيب. إن الطب يكتنفه الغموض فهو يمتلئ بعبارات من قبيل (غير معروف) و(غير مؤكد) وكذلك الأدب.
وتبقى المسألة المهمة قائمة وهي مسألة المقاييس التقييمية، فالسؤال هو هل نستطيع أن نقيم قدرة طالب الطب أو طالب الأدب على أساس يختبر بشكل عادل تلك الأشياء التي تجعل الطالب يبدو منافساً فيها؟ أو بمعنى أخر هل هناك مقاييس موثوق بها وقانونية؟ فكما في الأدب فنحن قد ننتهي إلى اختبار الطلبة بما يظهرونه من حس طبي أو تذوقهم للطب أو كما قال هيوم (4)” حس قوي مع عاطفة مرهفة محسنة بالممارسة ومكملة بالمقارنة ومنزهة من كل تحيز” هو ما يحتاجه الممتحن المثالي لتقييم الطلبة.
نأتي إلى النقطة الجوهرية ، إن الأدب يقدم نفسه على صورتين مهمتين وهما المجازية وعدم الوضوح وهل هناك في الطب أكثر من الرموز والرسوم وأدوات التشخيص ومنها كمثال الأشعة السينية والتي تقدم لنا صورة مجازية عن أحد تجليات المرض وعلينا أن نترجم هذه الصورة غير الواضحة حسب خبراتنا ومعارفنا إلى صورة واضحة عن مرض معين أو مجموعة من التشاخيص المختلفة أو ما يسمى بـ Differential Diagnosis للوصول إلى المعنى وراء هذه الصورة أو ذلك الرقم في ورقة التحاليل، إننا نعيش كل يوم كماً هائل من الرموز والمجازات والتي تحمل بداخلها عدم الوضوح والمعاني المتعددة.
… (يتبع)
_______
1. كامو، ألبير. الطاعون ، دار الآداب، ترجمة عائدة مطرجي إدريس.
General Medical Council. Tomorrow’s doctor. London: GMC, 1993. 2
Skeleton, J R. Thomas, C P. MacLeod, J A A. The Lancet 2000, 356: 1920-22. 3
4. هيوم، دافيد. الفيلسوف الإنجليزي الشهير (1711-1776).