تجربتي مع كتابي الاول مرت بعدة مراحل تقاطع فيها الحماس مع الاحباط مع التفاؤل والتشاؤم ولكنها في المجمل كانت تجربة متميزة منحتني عمقاً في التعامل مع عملية النشر والطباعة في تجارب لاحقة.
عندما بدأت كتابة قصص مجموعتي الاولى (إلى متى؟!) العام 1995 كنت ما أزال ابحث عن طريق للوصول إلى ما يميز كتابتي وما يجعلها دائماً طازجة وجديدة، ولكنني مع مرور السنوات وحتى العام 2000 عندما قررت أن قصص المجموعة قد اكتملت كمرحلة تطور في كتابتي، قررت عندها أنه قد حان الوقت لدخول تجربة نشر كتابي الأول.
المرحلة الاولى كانت في اختيار القصص التي اردتها ان تكون من ضمن الكتاب، وحتى ذلك التاريخ كنت اواظب على كتابة نص قصصي جديد كل شهر تقريباً فتجمع لدي عدد كبير من النصوص التي اختلفت اشكالها واصواتها، إلا أنني قررت أنني ساختار تلك النصوص التي حظيت بالنشر في المطبوعات والصحف، فتجمع لدي ما يقارب احدى عشر نصاً رأيت انها ستكون كافية لتظهر في كتابي الاول الذي اخترت له عنوان احد القصص (إلى متى؟!).
المرحلة الثانية كانت أن اجد الشجاعة الكافية لإدعاء ان هذه النصوص تصلح ان تكون باكورة تجربتي القصصية والسردية بشكل عام، وكنت حينها، ولازلت، اعاني من خجل مزمن في الافصاح عن ارتكاب الكتابة، كفعل يمنحني شعور بالفردانية والتميز امام استمرارية الحياة المتواصلة بلا كلل.
واستطيع ان اقول أنه بمساعدة وتواطؤ عدد من الاصدقاء تمكنت ان استجمع الشجاعة الكافية لدخول تجربة طباعة ونشر وتوزيع كتابي الاول، واهم هؤلاء الاصدقاء، الكاتب عبد الرزاق العاقل الذي غمرني بحماسه وتكرم بالاطلاع على القصص وكتابة مقدمة مهمة تصدرت المجموعة القصصية، الشاعر عبد الدائم اكواص الذي عاصر جميع مراحل تكون وكتابة النصوص التي ضمتها المجموعة، وبالطبع الاديب د. احمد ابراهيم الفقيه الذي منحني الدفعة الاخيرة التي جعلتني انطلق في هذه التجربة بعد اطلاعه على المخطوط وتعليقه المتميز عليه.
المرحلة الثالثة كانت أن اقوم باعداد واخراج الكتاب بداية من التحرير والتبويب الداخلي وحتى تصميم الغلاف وهو ما قمت به بنفسي، واخترت لوحة فنية كانت قد اهدتها لي مشكورة في زمن قديم المهندسة ماجدة التومي.
المرحلة الرابعة كانت الحصول على رقم الايداع الوطني والترقيم الدولي من دار الكتب الوطنية كناشر خاص لكتابي، ومن ثم الحصول على موافقة الرقابة على المطبوعات عن المخطوط وهو ما مر بسلام دون اي عوائق او تأخير.
المرحلة الخامسة كانت الطباعة، والتي لم تكن سهلة في مطلع العام 2001، فقد كانت ظروف النشر في ذلك الوقت في ليبيا محدودة، فقد اغلقت الدار الجماهيرية للنشر، ودور النشر الخاصة كانت في بداياتها، والنشر خارج ليبيا لم تتوفر قنواته بشكل ميسر، فما كان مني سوى الاتفاق مع مطبعة خاصة عن طريق مساعدة احد الاصدقاء وهي المطبعة الخضراء، وكنت اذهب لقسم الاخراج بالمطبعة بشكل شبه يومي طيلة صيف العام 2001 للمساعدة في اخراجه بصورة حسنة، وانتهت مرحلة الاخراج واتفقت مع دار النشر على طباعة ألف نسخة مقابل مبلغ 1500 دينار ليبي، والتي لم املك درهماً واحداً منها في ذلك الوقت، حيث كنت حديث التخرج من كلية الطب واعمل طبيباً ملحقاً بدون مقابل في مستشفيات طرابلس، وكان ان تكفل والدي، صخرتي التي اقف عليها دائماً، والذي كان وما يزال الروح التي تمنحني شغفاً والهاماً لمواصلة هذا العمل المرهق، تكفل بدفع المبلغ عني كاملاً، وبذا دخل كتابي الاول المطبعة وظهر للوجود في شهر اكتوبر من العام 2001.
المرحلة السادسة كانت عودة لزيارة ادراة الرقابة على المطبوعات للحصول على اذن التداول وذلك بتسليم عدد من النسخ لديهم للاطلاع عليها ومن ثم الحصول على الموافقة النهائية بتداول الكتاب داخل ليبيا، وهو ما تم دون عوائق.
وبعد انتهاء كل هذه المراحل وجدتني اقف في حجرتي امام الصناديق التي تحوي ألف نسخة من كتابي تنتظر التوزيع، لأصبح بعدها خبيراً في اعداد وعناوين المكتبات المختلفة في مدينة طرابلس وتحولت في ساعات قليلة إلى تاجر كتب احاول اقناع اصحاب المكتبات بشراء سلعة كنت اعرف انني لن اتمكن من الحصول عائد مادي منها، فمعظم المكتبات لا تدفع مقدماً للنسخ التي تودعها لديهم، عدد بسيط جداً منها ومن خلال علاقتي الشخصية باصحابها، وافقت على شراء نسخ الكتاب مقدماً، اما الباقي فحتى هذه اللحظة لم استلم منها اي مقابل.
خرجت من تجربة كتابي الاول بوعد قطعته على نفسي بأن علاقتي بأي كتاب يصدر لي في المستقبل ستكون علاقة كتابة فقط، فخلال تلك التجربة الاولى تقمصت اداور، الكاتب، والمصمم والمخرج والمعد، والناشر والموزع والتاجر، وبعض الاداور الثانوية الاخرى.
التجربة الاولى ادخلتني دهاليز الطباعة والنشر في ليبيا وتعلمت منها الكثير مما افادني في عملي الثقافي والابداعي حتى هذه اللحظة، ولكنني في نفس الوقت قررت انني لن امارس سوى دور الكاتب بعدها، الدور الذي اشك بعد كل هذه الاداور والتجارب في قدرتي على امتلاكه يوماً ما.. ربما.
______
* ستنشر هذه المقالة في العدد القادم من مجلة الجليس.