تختلط رائحة العرق بالكحول، برطوبة دبقة، الاضواء تتلاحق في ألوانها الحمراء والبنفسجية، تتلوى تحتها كافعى، ينقبض جسدها بجنون شهواني، تتكشف اجزاؤها بلا مواربة ولايسترها سوى خيوط دقيقة عند التقاء الفخذين، ينز جسدها عرقاً ويلمع عن مجرى يمتد ما بين نهديها حتى سرتها التي لمعت بقرط فضي مغروس في حاشيتها.. يرتج المكان من وقع اهتزازات مؤخرتها المشدودة، يتوهج فوقها وشم لجناحي ملاك ناري، تتلاحق الالوان ويرتفع صوت الموسيقى بايقاعها المتعدد الاعراق، يرتفع النبض مع الايقاع ويزداد اقتراباً من الذروة ولكنه لا يصل. لا يستطيع ان يلمسها، فقط تلاحقها الاعين. تلمس الشفتين، الرقبة الطويلة، النحر الناعم، حتى خصرها الدقيق ويتلاشى البصر عند تلك النقطة المختفية وراء نقابها الشفاف مشرعة للوهم مساحة لرسم الصور. يرتفع الصخب مجدداً وتظهر في الصورة اجساد اخرى، سيقان عاجية ترتفع في الهواء، تحوم فوقه، تلتف حول رقبته، تخنقه برحيقها المدفون في الغياب، ترتفع اصوات اخرى، اصوات غليظة، وتظهر الصورة من وراء الاضواء والعتمة، رجال يجلسون على الارائك الجلدية الداكنة يلاحقون الاجساد العارية بحياء.. اجساد بيضاء.. سمراء، سوداء، تتشابه جميعها في هذه الظلمة المتوالية بسرعة.. فجاءة تتوقف الاجساد عن الحركة وتتوقف الاضواء عن التراقص وتتوقف الموسيقى.. وترتفع اصوات الرجال بصخب مطالبة بالمزيد من..
– اوي.. ماذا تفعل هنا.. ألم توصل الاكل الذي طلبناه.. عد إلى جحرك، لكي تشاهد عليك ان تدفع اولاً.. عد إلى بلادك أيها الابله..
صوته الغليظ.. ووجهه الاغلظ جعله يعود من رحلته المكبوتة.. اسرع بالخروج من القبو الذي يشغله المهلى الليلي.. صاعداً الدرج الضيق إلى الشارع المزدان باضواء عيد الميلاد ورأس السنة، تلسعه رياح الشمال مخترقة جلده الصحراوي الاسمر.. تمتم وهو يعود إلى داخل المطعم الذي يعمل فيه ” قليل.. قليل من الدفء..”
** ** **
اشعل سليم عود الثقاب الاخير وقرب اللهب من طرف سيجارته الملفوفة، فمنذ مدة وهو يحاول ان يقلل من عدد السجائر التي يحرقها كل يوم لا خوفاً على صحته وانما لارتفاع اسعار ماركته المفضلة من سجائر المارلبورو الحمراء. سحب نفساً من سيجارة اللف بينما كان يجلس على برميل زيت الطهي الفارغ في الزقاق الخلفي للمطعم.. حاول ان يتلذذ بنفس السيجارة الاول إلا أنه سرعان ما اخرجه وبصق على الارض المبلطة الداكنة وتمتم بصوت مسموع.
– تباً.. مذاقها مقزز.. كان بالامكان اضافة قطعة من الحشيش إليها ليصبح لهذا العذاب طعم مختلف..
لم يتوقف سليم عن كيل الشتائم لكل ما يحدث حوله منذ ان وطئت قدماه انجلترا ومن ثم استقراره بمدينة مانشيستير محاولاً أن يجد وسيلة للإستمرار والتنفس.
عندما وصل أول مرة اعتقد انه نجح في الهرب بمسافة شاسعة من شوارع وازقة حيه بطرابلس التي لم تلمسها يد القدر لكن امله خاب عندما وجد نفسه يقترب من الازقة المظلمة ومن روائح الشحم الحيواني المتعفن ودبق الزيوت على ارض هذا الزقاق.
لم يعتقد أنه سيحتفل بعيد ميلاده الاربعين وهو يرتدي قميصاً لم يغسل منذ اسابيع ويعتمر قبعة ملونة ببلاهة، لو رآه اي من اصدقائه القدامى بهيئته الحالية لاصبح موضوعاً للتندر وتزجية الوقت تحت عمود الكهرباء في شارعهم.
رمى سليم بعقب السيجارة على الارض ولم يعبأ بسحقها بحذائه، وحدث نفسه “ليذهبوا إلى الجحيم يكفي أن اولئك الاوغاد يحسدونني على وجودي في هذه البلاد ويتمنون ألف مرة أن يكونوا مكاني..”
قطع تفكيره صوت جهوري ينادي عليه في الجانب الامامي من المطعم.
– اوي.. اين انت يا صاحبي..؟!!
سارع سليم بالدخول إلى المحل مغلقاً الباب الخلفي وراءه حتى وصل الواجهة الامامية ليلمح (توني) أحد أفراد الحراسة الخاصة بالملهى الليلي المجاور للمطعم.
كان (توني) شاباً قصير القامة، غليظ البنية يرتدي بدلة حراس الملاهي الليلية السوداء، حليق الرأس ويتحدث بلهجة شمالية خشنة، وإلى جانب عمله في حراسة نادي التعري في عطلة نهاية الاسبوع فإنه يعمل مع البلدية في تسجيل ومخالفة السيارات، كما أنه وكحال جميع من يعملون في مهنة الحراسة، عضو في عصابة لتهريب التبغ والمخدرات والاسلحة البيضاء.. سلم (توني) على سليم بحرارة وتابع قوله:
– كيف حالك يا صاحبي.. وكيف هو العمل ؟!!
رد سليم بانجليزية تشوبها لكنة ليبية واضحة:
– لا بأس.. وكيف هو العمل معك أنت كذلك؟!
أجاب توني بحدة:
– العمل إنه كالخراء..!! ابناء العاهرات يسرقون جهدنا كل يوم ولكن ما العمل..؟!
قطع حديثه المسترسل فجاءةً ليتابع..
– هل من الممكن ان تعد لي بتيزا حجم 9 بوصات بالصلصة والجبنة فقط، فأنا جائع منذ الصباح وها نحن نقترب من السابعة مساءً والطقس كالخراء اليوم.. سأرجع بعد خمسة دقائق لاخذها.
اخرج ورقة عشرين جنيهاً واعاد سليم له باقي المبلغ ليتابع عمله في اعداد الطلب بشكل تلقائي، فقد مضى عليه في هذا العمل اكثر من عشر سنوات حتى اصبح يتقزز من منظر البيتزا عندما يراها في المحال الاخرى ولا يستمتع باكلها اطلاقاً.. فتح الفرن لتلفح وجهه الحنطي حرارته التي ذكرته بحرارة يوم صيفي في طرابلس، احس حينها بطعم الغبار والعجاج يترسب في حلقه.
** ** **
لم يخطط (توفيق) باخذ قيلولته في المطعم هذه الظهيرة فهو لم ينم منذ البارحة، والمكان الوحيد للراحة هو مخزن صغير بعلية المحل بالكاد تستطيع التحرك فيها مقرفصاً. استلقى على ظهره فوق الارضية الصلبة محدقاً في السقف محاولاً تناسي رائحة الغبار وبقايا دخان الشواء والطهي، لم يتبق من التفاصيل الصغيرة سوى بعض الاهتزاز ليعود إلى قريته بضواحي بريشتينا بكوسوفو. محتمياً من هجمات جيرانه الصرب.
مضى عليه الآن عشر سنوات في مدينة مانشيستير، لجأ أهله إلى ألبانيا المجاورة في بداية الحرب أما هو فقد تسلل عبر كرواتيا إلى ايطاليا ومنها وصل إلى فرنسا وبينما رجع من يعرفهم إلى كوسوفو مع عودة الاستقرار للبلد إلا انه تابع طريقه شمالاً وكأنه يهرب من صوت القصف والمدافع، في فرنسا اشترى بطاقة هوية ألمانية مزورة وقطع القنال الانجليزي ليصل لندن ومن ثم ذاب في فوضى المدينة المتناقضة. وكأن مزيداً من الشمال سيخلصه من حزنه وسيقربه من بيتهم الريفي ليجد نفسه في مانشيستير وفي علية المطعم يتنفس الغبار وينتظر ان تحين فرصة لشمال جديد.
تنامى لسمعه صوت السلم المعدني وهو يوضع على حافة العلية وصوت خطوات ترتفع على الدرجات. ظهر رأس يعتمر قبعة، لم يتبين (توفيق) في استلقائته المعتمة من يكون صاحب الرأس. فجأة غمر الضوء المكان وتبين (توفيق) صوت سليم وهو يقول:
– توفيق.. توفيق.. هل مازلت نائماً ؟! هل تعرف اين اجد نقوداً معدنية؟! هناك زبون في انتظار أن ارجع له باقي ما دفعه ولا اجد ما يكفي من القطع المعدنية في الخزينة. انه ينتظر منذ وقت طويل.. لقد اشترى بيتزا سبعة بوصات وسندويس دونير كباب وعلبتي مشروب..و…..
– حسناً.. حسناً.. يا الهي ألا تتوقف قليلاً لتأخذ نفساً، سوف انزل.. قاطع توفيق بحدة حديث سليم المتواصل وجلس متربعاً، مسح وجهه بيديه عدة مرات ثم نظر بعينين مجهدتين إلى المصباح المتدلي من السقف بالقرب منه فاعماه الضوء الباهر.. انتقل بصره إلى حافة فتحة الخروج في الارضية ليجد رأس سليم ما يزال يحدق به. صاح:
– أمازلت هنا ؟!!، عد إلى مكانك قد يدخل احد ويسرق شيئاً. سانزل حالاً.
راح رأس سليم ينخفض وهو ينزل، زحف توفيق على ركبتيه ويديه حتى وصل أعلى السلم، وضع قدمه اليمنى على الدرجة الأولى وألحقها بقدمه اليسرى، نظر إلى آخر العلية ليلمح جرذاً رمادياً ضارب إلى السواد وهو يتحرك بكل ثقة بالقرب من موضع استلقائه الذي حتماً ما يزال دافئاً.. شعر بالارض تهتز من تحته واحس بأن السلم الحديدي يفقد توازنه على البلاط الاملس، سمع صوت السلم المعدني وهو يرتطم بالبلاط بحدة لحقه صوت سقوط جسده على حوض الغسيل بالاسفل ومن ثم البلاط، وقبل ان يفقد وعيه صاح بصوت يائس..”تباً للجرذان”.
** ** **
تركز بصره بتيار الماء وهو يندفع من حنفية حوض الغسيل، يتناثر فوق اكوام الصحون والاوعية المعدنية المختلطة ببقايا الطعام، لحم مشوي، شحم متخثر، بقايا طماطم وسلطة والكثير من الصلصة الحمراء والبيضاء، إنه اليوم الاول ليونس في عمله بالمطعم، فلم يمض على وصوله إلى بريطانيا سوى بضعة اسابيع في رحلة جعلته اقرب إلى القبر منه إلى هذا المكان. ساعده أبن عمه الذي يسكن مدينة مانشيستير منذ عشر سنوات للحصول على عمل في هذا المطعم الذي يمتلكه طبيب ليبي، فهو لم ينصحه بالعمل والتدرب في مطاعم العرب الاخرين الذين يمتلكون عدد من المطاعم في منطقة راشوم المشهورة بمحلات الاكل من مختلف الجنسيات فهم حسب قوله “سيركبون على ظهرك ولن يمنحوك سوى الفتات أما هنا فعلى الاقل ستتعلم الصنعة ومن ثم تأتي للعمل في أي مكان..”.
لم يكن يونس حزيناً هذا اليوم ولكنه شعر بالراحة عندما تذكر ما حدث لرفاقه في رحلة تسللهم إلى بريطانيا، أو بالاحرى تهريبهم كبضاعة بشرية، فعندما قرر هو وثلاثة من رفاقه الوصول إلى هذه الجزيرة قادمين من مالطا التي استقر فيها بضعة اسابيع بحثاً عن عمل، اتفق مع أحد المهربين المالطيين والذي قبض خمسمائة دولار على “الرأس” وأشار عليهم بأن يأتوا إلى احد المستودعات في اطراف الجزيرة حيث انظموا إلى عدد من المتسللين الآخرين من مختلف الاجناس، بعض الافارقة، ثلاثة ألبان، مغربي والبقية كانوا من الصينيين. تم تحميلهم جميعاً في حاوية صغيرة الحجم حملت على سفينة متوجهة إلى ميناء ساوث هامبتون الانجليزي.
لم يعد يتذكر الكثير مما حدث خلال تلك الرحلة ولكن بعد عدة ايام في بطن الحاوية المظلم لم يخرج من هذا الغياب سواه وزميله المغربي اما الباقي فتم شحنهم إلى مشرحة جلالة ملكة بريطانيا العظمى.
لم ينزعج يونس من اضطراره للقدوم قبل الخامسة فجراً وفي ظلام الشتاء البارد لكي يقوم بتنظيف المطعم الواقع وسط المدينة، لم ينزعج من فوضى المكان بعد ليلة صاخبة لمرتادي الحانات والنوادي الليلية المجاورة وكميات الاكل الملقاة على الارض أو القئ في احد الاركان. لم ينزعج وهو يلقي بزيوت وشحوم القلي في البرميل الكبير بالزقاق الخلفي ولكن ما ازعجه أنه ما أن دخل المطعم وهو يشم رائحة عفونة سيظل يميزها إلى الابد.. رائحة تفسخ.. رائحة تعفن.. رائحة تجيف.. ذكرته ببطن الحاوية التي ابتلعته مع جثث رفاقة الهاربين من الفقر والحروب إلى الموت والتحلل.
– كيف حالك هذا الصباح..؟!
لم يشعر يونس في استغراقته بسليم وهو يدخل للمطعم، لقد فاجأه فسقط صحن من يده ليتهشم على الارض.
– المعذرة ولكنك فاجأتني.. أجاب يونس بوجل.
أردف سليم قائلاً:
– لا عليك.. يبدو انك لم تنتبه لدخولي هل انت العامل الجديد، لقد حدثني عنك توفيق، أليس كذلك.. خوك سليم..
– نعم أنا يونس.. ولكنني توقعت ان ارى توفيق هذا الصباح.
اجاب سليم وهو ينظر إلى السلم المعدني المركون بالقرب من حوض الغسيل.
– لقد سقط توفيق مساء الامس من على السلم وهو ينزل من العلية مما تسبب في فقدانه الوعي لبضعة دقائق. نقر سليم بيده على رأسه وتابع.
– يبدو ان جمجمته مصنوعة من الصخر فلم يصب سوى بجرح صغير في رأسه ولكنه أخذ اجازة لهذا الصباح وسيعود للعمل مساءً.
– ارجو ان يكون بخير.. قال يونس وهو يلقي ببقايا الصحن المهشم في برميل القمامة.
– هل انتهيت من التنظيف؟، هل تريد ان اعد لك كوباً من القهوة لكي تنتعش.
احس يونس أن رائحة الموت تزداد اقتراباً، شعر بتسارع نبضات قلبه وبأنه يختنق.. حتى انه لم يسمع سليم جيداً.
– ماذا قلت؟ هل سألتني شيئاً؟!
كانت الرائحة تنبعث من برميل القمامة أزاح يونس بقايا الأكل لتظهر جثة جرذ متجيفة، تناهى له سليم وهو يعاود القول
– هل اعد لك فنجاناً من القهوة؟.
** ** **
يتساقط الثلج بهدوء على حافة النافذة المطلة على الحديقة التي فقدت اخضرارها ليلاً لتكتسي بالبياض. يستلقي فوق بياض فراشه. ثلاثة ايام مرت لم يخرج فيها من حجرته. ثلاثة ايام وهو يحتضر. هذا ما احس به، الهاتف لا يرن ولا احد من الجيران سيفتقده ليدق عليه الباب ويسأل عن حاله، لينقذه من الموت. بدأ الشلل يتسلل إلى قدميه وامتد حتى وصل إلى بطنه وصدره، لم يستطع أن يزحف إلى الحمام ليقضي حاجته. بدأ التجيف يتسلل إليه وهو ما يزال يتنفس. ها هو الآن يستنشق موته، يتغلغل في ثنايا عقله. عندما تساقط الثلج بكثرة قبل ثلاث ايام شعر بالفرح. فاجأه على شكل ألم في الصدر تفرع إلى ذراعيه، كان الفرح يذبحه، تسائل حينها كيف سيكتشفون جثته في هذه الفوضى التي يعيشها ولكن متى سيحدث ذلك؟! ربما عندما يتساقط الثلج مجدداً أو ربما في الربيع القادم.
راحت صورة المرأة العارية وهي تتلوى تحت الاضواء المتلاحقة تتكرر بين عينيه، “لا بد أنها النهاية” تمتم بخفوت.. لا مهرب الآن، فها هو يتنفس بصعوبة، وقبل ان يخرج الهواء الاخير، ايقن انه عاد إلى حيث يجب ان يكون دائماً، إلى موته الدائم..
عندما تساقط الثلج مرة أخرى كان ما يزال في مكانه يكرر موته اليومي بلا رغبة في الخلاص.
لندن – انجلترا
مارس 2008